طَمِّنْ بالَكْ…. ومن حكاوى الرحيل – الحادية عشر* د. سمير محمد ايوب
النشرة الدولية –
طَمِّنْ بالَكْ، لأني ما زِلتُ أعلم، أنَّ مِنْ طبائعِ الرّحيلِ إختيارُ الأفضل. كنتُ كلَّما سألتُكَ هل ستَرْحل؟! تضْحكُ، وتّتَّهِمَني بالجنون اللذيذ، لأنني كنتُ أسألك عمّا في علم الله وحده.
في توالي هذا الليل، ألِحُّ عليكَ وأنت تتعافى الآن، على سرير الإستشفاء في دار النقاهة، وقد خفَّتْ حركة بِيضُ الحمائم من حولك، أنْ تُبدِّدَ خوفيَ منَ الرحيل، وأنْ تُؤكِّد ليَ بأنَّكَ باقٍ لأطمَئِن. فمِثْلُك يَتعجَّلُ الرحيلُ في إنتقائه، ومثليَ للوجعِ منذورةً و للبكاء.
إنِ أختارَكَ الرحيلُ يا صاحِ، و غادَرْتَ مُضطرَّا، لنْ تَبتعد كثيرًا، فكلُّ ما بَيننا مُختلفٌ مُميَّزٌ باستثنائيتِه. ستَظلّ كحبلِ الوريد قريبًا. صوتُك معي أنَّى وجَّهتُ عُيوني، أوَشْوِشُكَ الفَقْدَ ونحن نُثَرْثرُ كعادتِنا. ثِقْ أنّ مِنْ بَعدِك نبعُ الكَلِمِ لنْ يَنضَبْ، و لكنَّ الكثيرَ مِنَ الكلامِ سيفقدُ دفئَه المسكوت عنه، وستَتَبدَّدُ خوافيَ معانيه، والكثير
مِنْ مَذاقِه و نَكهتِه المُبطَّنة.
و كلّما جُنَّ الوجَعُ، سأحملُه إلى كلِّ أماكنِنا، لأحكيَ لها عمّا يُؤلِمُني، ونستَعيدَ ساعاتٍ مِمّا أمضينا هنا وهناك، وبحرقةٍ سأبكي, حتى تُعانقَ شفتيَّ دموعٌ صامتةٌ، تنتظرُ أصابعَك وشفتيك لِتُلَمْلِمها، فأنت وحدَك من يفهمُها ويُهدِّئ منْ رَوْعِها. لَيتَنا كنَّا نُدركُ مسبقًا موعدَ الرّحيل، لأزْدَدْنا إختلاطًا، واستَزَدْنا منْ كلّ شييءٍ شَيئًا.
سأفتقدُكَ كلّما دقَّتْ ساعةُ مَولدي. فأنتَ أوَّلُ منْ يأتيَ بالكثيرِ منَ الحب، و يَسْتَوْلدُ الكثيرَ من الأحلام المُلَوِّنَةِ، و ننثرها معًا في كلِّ عامٍ جديدٍ، أحلامًا و أفراحًا طازجة.
سأفتقدكَ كلَّ صباحٍ تُشرقُ شمسُه، و لا تُربِّتْ على ظهري الذي تَحتَضِن. سأفتقدُكَ كلَّ مساءٍ يُداهِمُني، دونَ أنْ تَهِمسَ فيه بَوحًا حميمًا، يستطيلُ مع سهَرِعيونِ القلب. سأرتجفُ خوفًا عندما أركضُ لهاتفي لألتقيك عبرَهُ، و لا أجدُ ضُحكةَ عينيكَ تُضيئ شاشَتَه. سأغرقُ في يُتْميَ، كُلّما اسْتَسْقَتْ طِفلَتي ابتسامَتَك و لمْ تَجدها، و كلَّما قَفَزَتْ فَرِحَةً، ولا تُلاقي في منتصفِ الطّريقِ فَرَحَكْ ، فيموتُ يُتْمُها من جديدٍ، غَمَّاً و كَمَدًا وغَيظاً.
و لَكنْ، كُلَّما سألونيَ عنِّي، سأخبرُهُم أنَّك بِخير، و أنّك تُقبِّلُني كلَّ مساءٍ، و تَحكيَ لي حكاياتَ الذِّئب، مع ليلى ومع يوسف. و تُحدِّثُني كثيرًا عن حوت يونس، و سفينةِ نوحٍ عليهم السلام. وحين أغفو مُبتسمةً، تُدثِّرُني بفرحٍ و شوقٍ. تُطفِئُ النورَ وأنت تغلق الباب وراءَك. وعلى رؤوسِ أصابِعك تُعاود الرحيل. وحين أصحو أحكي لهم عنك، و حين تعود إليَّ، أحكي لك عنهم.
قبل أن نتابع حكاوينا، كي لا نفترقَ قبلَ الأوان، وأعيشَ اليُتْم المُكرّرَ مُطوَّلا بعدَك، سأنقشُ حكاوينا على نجوم السماء ، علَّها تهدي حيارى مثلنا، و أطرِّزُها على نسائمِ ليلِ العِطاش، علَّها تَروي لهم ظَمَئاً، وأعطّرُ بشذاها الأرْبُعا، و أخبِؤُها في حفيف الربيع، وعميقًا في تقاسيم حسونٍ يُرتِّلُ للفَرَحِ، و برفقة هديلِ يمامٍ ينوحُ حَزَنا على أصابعٍ مجنونةٍ، و شفاهٍ بربريةٍ، و وميضِ عيونٍ باتَتْ ثَكلى تائهة.
أيُّها الشقيُّ لا تحزن كثيرًا، طَمِّنْ بالَك فأنا معَك، لنْ أدَعَكْ تَرحَل وحدَك، خُدْني معَك، فَكُلُّ المعارِج والمدارِج إليكَ لِي.