هل بدأ استعادة التوازن في لبنان؟* طوني فرنسيس
النشرة الدولية –
ليس الاحتشاد الشعبي الذي استقطبته بكركي، مقر البطريركية المارونية في لبنان السبت الماضي، احتشاداً دينياً فئوياً. وليس تظاهرة مارونية أو مسيحية، ولا عرضاً لميليشيا مذهبية، بل هو بداية جديدة لتبلور موقف سياسي شعبي لبناني عابر للطوائف، رافض هيمنة “حزب الله” المرتبط بإيران، ونتائج تلك الهيمنة، التي لم توصل لبنان إلى الأزمة التي يعيشها فقط، وإنما تمنع إمكانية خروجه منها، عبر الإمساك بمفاصل السلطة وتوظيفها في خدمة الحسابات الإيرانية، ضمن الصراع بين طهران ودول الإقليم والمجموعة الدولية.
كانت انتفاضة 17 أكتوبر (تشرين الأول) 2019 حريصة على عدم جعل سياسات “حزب الله” هدفاً رئيساً معلناً لها. وركزت على رفض سياسات الطاقم الحاكم اقتصادياً واجتماعياً ومالياً، ونادت بالقضاء المستقل والمحاسبة ومكافحة الفساد، ودعت إلى قانون انتخاب عادل وعصري وانتخابات مبكرة. وفي الخلاصة كانت تلك الشعارات أسساً لاستعادة الدولة وإعادة بنائها، فاصطدمت من دون أن تطمح إلى ذلك، بأحزاب السلطة وفي مقدمتها “حزب الله” الذي وظف إمكاناته التنظيمية والسياسية والأمنية لمنع تطور الانتفاضة الشعبية وتحولها إلى عامل حاسم في المشهد السياسي العام.
لم يرتق الاعتراض الشعبي في نهاية عام 2019 إلى مرتبة تخوله لتهديد مصالح التحالف السلطوي الذي يقوده ذلك الحزب، المستند إلى دعم وتمويل إيراني مطلق، وإلى تنظيم مسلح يهيمن على مفاصل حياة إحدى الطوائف اللبنانية الأساسية. وتمكن الحزب المذكور منذ اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري من وضع يده تدريجياً على المؤسسات الدستورية الرسمية، بحيث ألحق بسياسته موقعي رئاسة الجمهورية والحكومة، وتمددت تأثيراته إلى مختلف أجهزة الدولة الأمنية والقضائية والإدارية.
ومن النقطة التي وصلها في رأس السلطة، أمعن في نهج التفرد بقيادة البلاد وزجها رغماً عنها في انقسامات الإقليم، لتتحول “اللبنانية” صفةً للقتال في سوريا والتدريب في اليمن والعراق وتشكيل الخلايا في بلدان العالم، ناهيك عن اتهامات تبييض الأموال وتحريك شبكات المخدرات.
تساهل العالم طوال سنوات مع تحولات الأوضاع اللبنانية. وبدا أن هناك قبولاً ما بأدوار يلعبها الحزب اللبناني المسلح، في ضمان أمن متوازن على حدود إسرائيل وفي القتال داخل سوريا تحت العنوان الدولي الفضفاض عن مكافحة الإرهاب.
وتبلور نوع من التواطؤ اللبناني الداخلي مع المهمة الموكولة، أو التي انتدب “حزب الله” نفسه إليها، واستمر ذلك طيلة أكثر من عقد من الزمان، كان لبنان خلالها يراوح بين الدولة والدويلة، إلا أن تلك المرحلة انتهت مع الانتقال إلى الإمساك بالسلطات المفصلية (الرئاسات الثلاث) ما أتاح إمكانية تحويل السياسة الحزبية الخاصة الموالية لإيران إلى نهجٍ رسمي للدولة اللبنانية، فيما تفاقم العجز عن إيجاد حلول للأزمات الخانقة التي توجت بتفجير مرفأ بيروت.
انعكس “الانقلاب” السياسي في لبنان بقوة على علاقاته الخارجية المفيدة في العالم العربي (الدول الخليجية خصوصاً)، ساد استغراب لانضمام قوى طائفية، مسيحية تحديداً، من موقعها الرسمي إلى موجة العداء لها والدفاع عن سياسات إيران. وتساءلت نُخب خليجية، بماذا أسأنا إلى لبنان، ومن يتولون المسؤولية من المسيحيين فيه، لنُقابل بمثل هذا السلوك، حيث يتم تبني المواقف العدوانية ضدنا، ولا نسمع كلمة استنكار لما تتعرض له بلداننا من إساءات القيادة الإيرانية؟
كان الأمر مقبولاً على مضض لو اقتصر على التنظيمات الموالية لإيران، لكن الصمت اللبناني العام، وانخراط قيادات مسيحية مسؤولة في نهج العداء والتحريض كسر الصبر الخليجي، في لحظة الانهيار الشامل، والحاجة الملحة إلى الدعم والتمويل الخليجيين.
لم تنفع المبادرة الفرنسية في تغيير الواقع السياسي المشدود باتجاه واحد، ما جعل لبنان ينحدر بسرعة نحو جهنم التفكك والفوضى، وباتت الأسئلة تطرح بإلحاح عن مسؤولية المتحكمين بمفاصل القرار في تفكيك الدولة ووضع اليد عليها، بما ينقض كل المواثيق التي قام عليها الكيان اللبناني منذ نشأته قبل مئة عام.
لا تُفهم حركة الكنيسة المارونية الراهنة خارج إطار الحركة العامة التي تشهدها الأوساط اللبنانية، بما فيها الطوائف المتعددة المسيحية والسنية والدرزية والشيعية، في سبيل الحفاظ على روحية الكيان التوافقي، المنصوص على انتظامها في الدستور والميثاق الوطني.
وفي خطاب النقاط العشر الذي ألقاه رأس هذه الكنيسة الراسخة في تأسيس لبنان المعاصر، لم ترد إشارة واحدة إلى مطلب طائفي أو فئوي. كان خطاباً موجهاً إلى اللبنانيين كافة، من أجل منع الانقلاب على الدولة والتمسك بها راعيةً ومعبرة عن مصالح الجميع. وفي السياق يتساوى المسيحي اللبناني والمسلم اللبناني في تحمل مسؤولية استعادة تلك الدولة بمؤسساتها الدستورية الشرعية، لتنتهج مجدداً سياسة حياد تعبر عن توافق اللبنانيين بمختلف طوائفهم، وتُخرج البلاد من مأزق الالتحاق بالمحاور المدمرة.