“المبادرة الفرنسية” في اتصال فرنسي “غير معهود”* فارس خشان
النشرة الدولية –
النهار العربي –
تلقيتُ، يوم أمس اتصالاً غير معهود، من شخصية فرنسية سبق أن اعتمدتها مصدراً معلوماتياً لي، بفعل ثبوت صدقيتها.
ما هو غير معهود في هذا الإتصال أنّ الشخصية التي كانت تشكو، ماضياً، من كثرة اتصالاتي ووفرة أسئلتي، تريد أن تعرف أسباب انقطاعي، راهناً، عن مراجعتها.
أربكني هذا الإستفسار، ذلك أنّ انحراف جوابي عن جادة الدبلوماسية، يمكنه أن يُفقدني مصدراً مهماً ألوذ به، كلّما تعقّد فهمي للتطورات في الملفات التي أهتم بها.
ويبدو أنّ حالة الإرباك التي نالت منّي، سهلّت عليّ المهمة، فقال لي المتصل: “فهمتُ الآن. أنتَ لم تعد تعتبر أنّ ما تقوم به الإدارة الفرنسية، في ما يختص بالشأن اللبناني، أيّ معنى. لقد أسقطتها من حساباتك”.
ضحكتُ، وسألتُه:” وهل تجدني مخطئاً في ذلك؟”.
– “لا أعرف”. أجابني قبل أن نُنهي المخابرة في الحديث عن شؤون الكورونا وشجونها التي تحتل مرتبة الأولية في الاهتمام الفرنسي.
فكرتُ مطوّلاً في مغزى هذا الإتصال، فوجدتُ أنّ هذه الشخصية رأت في انقطاعي عن التواصل معها مؤشراً إلى انهيار رهان شريحة واسعة من اللبنانيين، على المبادرة الفرنسية التي سبق أن أطلقها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.
وبالفعل، فقدت المبادرة الفرنسية قيمتها الإنقاذية، في تلك اللحظة التي أصبحت فيها رهينة الخلاف الذي يُبعد الرئيس المكلّف تشكيل الحكومة سعد الحريري عن رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل، إذ إنّ العمل الفرنسي انصبّ ولا يزال على جمعهما، على اعتبار أنّ ذلك هو الوسيلة الوحيدة للحصول على توقيع رئيس الجمهورية ميشال عون على التشكيلة الحكومية المرجوّة.
ولهذا السبب، لم يعد الإتصال بالدوائر الفرنسية لمعرفة دينامية المبادرة الإنقاذية، إلّا استطلاعاً لتطوّر الخلاف بين الحريري، من جهة وبين عون وباسيل، من جهة أخرى فيما لبنان ينهار، يوماً بعد يوم، وكفاءاته تهاجر، وشعبه يئن، واحتياطاته النادرة تُستنزف، والفوضى تدق الأبواب، واليأس يتعمّم.
بطبيعة الحال، لا تتحمّل فرنسا مسؤولية الإنهيار في لبنان، ولكن لا يمكنها، وهي التي بادرت ووعدت، أن تنتقل إلى موقع “شيخ صلح” بين شخصيات سياسية متباينة الأهداف والتطلعات والحساسيات والأنانيات والطموحات، بعدما كانت قد تعهّدت أن تكون الوسيط النزيه بين مطالب الشعب اللبناني التي تبنّتها وبين الطبقة السياسية التي عوّمتها بعد كل ما أصاب هذه الطبقة من ضرر وتشتت، في ضوء ثورة 17 تشرين الأوّل (أكتوبر) 2019 وانفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب (أغسطس) 2020.
في هذه الحالة، هل يعود ثمة فرق بين الدور الذي يلعبه الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون وبين ذاك الذي يقوم به، بين فترة وأخرى، المدير العام للأمن العام اللواء عبّاس إبراهيم؟
إنّ قيمة دخول الدول على خط أيّ أزمة وجودية، كتلك التي يعاني منها لبنان، تكمن، حصراً، في ما تختزنه من أوراق ضغط على من يخرق تعهّداً أو يُعرقل مساراً، فيما فرنسا مزّقت، منذ اليوم الأول، لانطلاق مبادرتها، أوراق الضغط هذه. إنّ مشهدية “بهدلة” ماكرون لمراسل صحيفة “لوفيغارو” جورج مالبرونو، بسبب مقال نشره عن احتمال إنزال عقوبات، بمن يتخلّف عن تعهداته الواردة في المبادرة الفرنسية، كانت كافية، ليلتقط من يعنيه الأمر نقطة الضعف الجوهرية، في حركة الرئيس الفرنسي، ويؤسّس عليها “انقلابه” الذي زاد الدمار دماراً والإنهيار انهياراً والإحباط إحباطاً.
إنّ “المبادرة الفرنسية” تقوم على معادلة ضعيفة، وهي أنّ الإلتزام بها يمد لبنان بحاجته الى الأموال الإنقاذية، فيما الإخلال بها، يقفل الأبواب أمام هذه الأموال.
وهذا يعني أنّ فرنسا تهدّد الطبقة السياسية بحرمان لبنان ممّا يحتاجه، ظنّاً منها أنّ هذه الطبقة التي هي اتّهمتها بالفساد والعجز والتبعية، تهتم، فعلاً، بمصير البلاد، متجاهلة أنّها كانت قد أهدرت، من دون أن يرف لها جفن، كلّ ثروات البلاد ومدّخرات العباد، وردّت على غضب الناس، بالتهديد والرصاص والإعتقالات وإثارة النعرات الطائفية والمذهبية.
وعليه، لم تعد “المبادرة الفرنسية” سوى مادة من مواد السجال السياسي المحتدم في لبنان، فالجميع يتّهم الجميع، بالعمل ضدها، فيما صاحب المبادرة صامت عموماً، وعندما يتكلّم يكتفي بالعموميات التي يفسّرها كل طرف، وفق هواه.
إنّ وقائع الأسبوع الذي مضى، بيّنت أنّ فرنسا لم تعد في الحسبان الحقيقي، فكل طرف يتحدّث عن دولة معرقلة، خصوم الحريري يتهمون المملكة العربية السعودية، ومريدو الحريري يتّهمون الجمهورية الإسلامية في إيران، فيما البطريرك الماروني، ومعه شريحة واسعة من اللبنانيين، بات ينظر الى دور لا يمكن أن تقوم به إلّا منظمة الأمم المتحدة، الأمر الذي أثار غضب “حزب الله” الذي كان مرتاحاً الى المشهدية الفرنسية “الرخوة” و”غير المنتجة”.
مصدري الفرنسي الذي اتصل بي، يقرأ اللغة العربية ويفهمها. سوف أرسل له هذه المقالة، ففيها الجواب الكافي عن استفساره.