لنثق بقدرة الجمهور على التعامل مع الحقائق القاسية * كرم نعمة
النشرة الدولية –
ليس عند غالبية السياسيين فقط، أنّ الصحافيين كائنات ضارة. هناك فئات في المجتمع ترى ذلك صحيحا أيضا!
تواجد الصحافيين مفروض على السياسيين في مواقع أنشطتهم من أجل الرأي العام وحرية تبادل المعلومات الذي تنشده الديمقراطيات في العالم. وإذا كان غالبية السياسيين يقبلون الصحافيين على مضض في أنشطتهم، فإنهم ينظرون دائما إلى أن حضورهم أمر ضار، لأنهم لا يكتفون بالمعلن من الأخبار. العقل التحليلي للصحافيين مؤذ للسياسيين، وخصوصا عندما يتعلق بأمور لم يفكر بها رجال الحكم.
تلك ثنائية معروفة منذ أن وجد الصحافي مع وجود الحاكم الذي يؤمن بأن المعلومات قوة يجب إخفاؤها.
لكن ماذا عمن يتفق مع السياسيين من أفراد المجتمع في بغضهم للصحافيين.
أتذكر جملة موظفة في مكتبة عامة وهي تتعرف على هويتي بقولها “كم تبدو محظوظا”، لمجرد أنها عرفت بمهمتي، مع أنني لا أشعر بذلك على الدوام. في مقابل استماعي إلى رجل آخر، ومع أنه على درجة عالية من التعليم والوعي، عزا أغلب ما يعاني منه أفراد المجتمع من قلق ومخاوف، إلى مبالغات الصحافة وتضخيمها الأحداث، وفق قاعدة “الأخبار السيئة هي أخبار جيدة”.
كنت أستمع إلى هذا الرجل في جلسة مشتركة مع آخرين، وهو يرى أن الفايروسات والأوبئة والأمراض المنتشرة في العالم أقل بكثير مما تنشره وسائل الإعلام. وهو أمر يتسبب بالمزيد من الذعر عند الناس، بعد أن تنشره الصحافة بمبالغة أكثر مما ينبغي.
كما يرى أن الأمراض النفسية المنتشرة في العالم المعاصر تعود لمتابعة الأخبار، وخصوصا المخيفة والصادمة منها.
الأهوال التي تركز عليها وسائل الإعلام، أقل بكثير من الحقيقة، وفق تفسير هذا السيد الذي كان يشاركنا الكلام مع مجموعة من الأصدقاء. وزاد تصوره المتطرف حيال عدم فائدة الصحافة، بجملة تفتقر إلى الكياسة والتهذيب، وهو يذكّر بما قاله قبل سنوات المدرب الراحل ديغو ماردونا عن الصحافيين أثناء انتقادهم لطريقة إدارته لمنتخب الأرجنتين، عندما رد عليهم بشتيمة قبيحة!
هذا الرجل في رأيه المتطرف بشأن جوهر الصحافة، لا يدرك في النهاية قدرة الجمهور على التعامل مع الحقائق القاسية، وعلى وسائل الإعلام مثلما على الحكومات احترام هذه القدرة، ومعاملة الجمهور كشركاء كاملين في كل ما يحصل.
حسنا، هذا الرأي المتطرف قد يبدو شاذا، فمثل هذا الرجل بطريقة تفكيره لا يمكن أن يدرك ما يمكن أن تحققه الصحافة لحيوية المجتمع في أفضل حالاتها عندما يكون الصحافيون حراسا للحقيقة.
لكننا مع ذلك سنجد من يدعمه يا للأسف.
ويبدو لي أنه أمر لا يستحق المواجهة بأكثر من أن تكون الصحافة مصدرا يتوق له الناس، من أجل معرفة المعلومة الصحيحة والأفكار النيرة والتحليل العميق لما يجري في العالم.
العالم لم يكن مشغولا بمصير الإنسان كما هو اليوم، والمجتمعات تشعر أكثر من أي وقت سابق بالحاجة إلى الصحافة وكم هي مهمة في حياتنا. فقد رافق انتشار وباء كورونا تصاعد الوعي لمواجهة الانكسار العميق الذي أصاب المجتمعات.
لم يعد غالبية الناس يثقون بما ينشر في وسائل التواصل الاجتماعي، دعك من الصراخ والشتائم، فالتلفيق والتزييف للمعلومات أكثر خطرا من ذلك.
الأخبار المزيفة بشأن كورونا دفعت إلى استعادة ثقة المجتمع بالصحافة كمصدر موثوق به لاستقاء المعلومات، وتجنب الناس التكنولوجيا مع تزايد المخاوف بشأن الأمن السيبراني والخصوصية وأمان الإنترنت والاستخدام الأخلاقي للذكاء الاصطناعي.
وبمجرد النظر لنموذج الأخبار المنتشرة على الإنترنت بغياب صحافة قوية ومسؤولة، تكتشف المجتمعات بيسر ما فقدته لمعرفة حقيقة ما يجري في العالم، فدب الخلاف السام، وتزايد عدم الاتفاق على مفهوم الحقيقة، وأعاد الناس إطلاق السؤال على أنفسهم، هل نحن في أفضل حال من دون صحافة مسؤولة وقادرة على ربط المجتمع بديمقراطية حرة من الأفكار والمعلومات؟ لذلك تبدو الحاجة ماسة للصحافة بوصفها مصدرا موثوقا للمعلومة التي يجب أن يتداولها الناس. وهذا سبب كاف يتطلب من المجتمع والحكومات معا الحفاظ على ديمومة صحافة موثوقة.
الحقيقة التي تنشدها الصحافة بحساسية عالية، وحدها قادرة على إنقاذ الديمقراطية في زمن معلوماتي مفتوح تسيره خوارزمية مواقع التواصل الاجتماعي. فالأكاذيب لا تنجح ما لم يصدقها الجمهور، وإذا كانت الصحافة بيئة صحية للحقائق يتراجع التزييف. ولا يمكن أن يحصل ذلك ما لم تتوفر لدينا صحافة مستقرة قادرة على إيجاد الحقائق من بيئة صعبة وملتبسة.
قد يبدو الأمر وكأن وضع قطاع وسائل الإعلام المطبوعة لا يمكن أن يكون أسوأ من ذلك. لكن الخسارة ستكون أسوأ ليس لمشغلي هذا القطاع وحدهم، بل سيكون الخاسر الأكبر هو المجتمع والحكومات، وستفتقد الدول إلى منظومة هدفها الأساسي نشر الحقيقة.
فدون هذه الصحافة المسؤولة لا يوجد طريق واضح للمضي به. أما ترك الصحافة تعيش أزمتها الوجودية فهذا يجعل العالم بيئة لأكاذيب مواقع التواصل. فإذا لم يوجد ما هو صحيح يمكن لكل شيء أن يكون كاذبا!
الشركات التكنولوجية العملاقة التي أضرت بالصحافة لا تريد فتح صناديقها السوداء على سعتها امتثالا لمدونة القيم ونشر الثقافة العالية، لأن ذلك يغير نماذج أعمالها ويؤثر على أرباحها، مثل كل شيء رديء وشائع.
لقد طمس العالم الرقمي بعد اجتياحه لحياتنا منذ أكثر من عقد، الخطوط الفاصلة بين العام والخاص، وبين المسؤولية الشخصية والعملية، وكشف عن نرجسية تهدد مفهوم الحرية، وصرنا مراقبين بذهول للتصعيد الدرامي في كل شيء.
لذلك ستبقى حرية الكلام والنشر على الإنترنت متاحة للجميع، لكن الحقائق يجب أن تبقى مقدسة بالنسبة إلينا كصحافيين. وذلك ما يُبقي على أهمية الصحافة للمجتمع، كما يجعل من الصحافيين أكثر ضررا على الفساد والتغول.