الصين “التحدّي الجيوسياسي الأعظم” وإيران تغيب في لغة الاستعارات* مرح البقاعي

النشرة الدولية –

في خطابه الأول منذ تسلّمه موقع رأس الدبلوماسية أعلن وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، عن استراتيجياته للسياسات الخارجية للولايات المتحدة الأميركية في ظل إدارة الرئيس بايدن. جاء الإعلان شاملاً وقد غطّى معظم الملفات الرئيسة، التي سيقوم بلينكن بمعالجتها ضمن استراتيجية حكومة بايدن تزامناً ومعطيات الأمن القومي الأميركي.

وقد قدّم خطابه بطرح الأسئلة الجوهرية، التي ستشكّل الإجابة عليها أولويات السياسة الخارجية، وتتلخّص بالعلاقة الجدلية بين الداخل الأميركي والمحيط الخارجي: ما الذي ينبغي علينا القيام به في العالم بما يجعلنا أقوى هنا في الداخل؟ وماذا علينا أن نفعل في الداخل بما يجعلنا أقوى في العالم؟

لا بدّ لملف الهجرة الشائك أن يطرح على طاولة البحث من أجل إيجاد الحلول اللازمة لمعالجة أزمة قوانين الهجرة وإيجاد حل دبلوماسي لائق يتعامل بإنصاف مع موجات الهجرات

يرى بلينكن أن الإجابات على هذه الأسئلة لن تكون كما كانت عليه في 2017 أو 2009 رغم أن العديد من الذين يخدمون في حكومة بايدن كانوا قد خدموا أيضاً في عهد الرئيس الأسبق باراك أوباما بمن فيهم الرئيس نفسه. ويقول في هذا الصدد إن “سياستنا الخارجية ستتناسب مع اللحظة الراهنة كما ينبغي لأي سياسة خارجية جيدة. هذا وقت مختلف لذا فإن استراتيجيتنا ونهجنا مختلفان. نحن ببساطة لا نتابع من حيث توقفنا كما لو أن السنوات الأربع الماضية لم تحدث، بل ننظر إلى العالم بعيون جديدة”.

 

بلينكن يؤكد على العودة الأميركية إلى الواجهة الدولية لأنه عندما تتراجع الولايات المتحدة فهناك احتمالان: إما أن تحاول دولة أخرى أن تأخذ مكان الولايات المتحدة، أو أن تحلّ الفوضى نتيجة هذا التراجع وما ستجلبه معها من مخاطر.

ويشير بلينكن إلى حاجة تعاون دول العالم أكثر من أي وقت مضى إذ لا يمكن لأي دولة مهما كانت قوية أن تعمل بمفردها لمواجهة التحديات العالمية.

وفي هذا السياق تندرج رؤية بايدن وتعهده بالقيادة بدبلوماسية لأنها من أفضل الطرق للتعامل مع التحديات الراهنة، مع مواصلة امتلاك الولايات المتحدة لأقوى جيش في العالم، فالاعتقاد الراسخ لدى إدارة بايدن أن الدبلوماسية الفعالة ستتوقف إلى حد كبير على قوة الجيش الداعمة للعمل الدبلوماسي.

وفي ظل جائحة كورونا التي شلّت العالم على مدار سنة كاملة ولم تزل، جاء الأمن الصحي العالمي ضمن قائمة الأولويات في خطاب بلينكن، وهو يرى أن للتغلب على الجائحة لا بد من أن تتضافر جهود الحكومات والعلماء والشركات والمجتمعات حول العالم وتعمل لهدف واحد وهو القضاء على الفايروس، “إذ لن يكون أحد آمنا حتى يتم تحصين غالبية سكان العالم من خلال دعم حملات التلقيح للجميع. بينما ستقوم الولايات المتحدة بتعزيز الأمن الصحي العالمي بما فيه أدوات التنبؤ بالأوبئة ومنعها والحد منها، والالتزام العالمي بتبادل المعلومات الدقيقة وفي الوقت المناسب حتى لا تتكرر أزمة كهذه مطلقاً”.

يمضي بلينكن في رسم سياساته ليتحدّث عن الديمقراطيات في العالم بما يقابلها من أنظمة فاسدة ومستبدة وعن دور الولايات المتحدة في الحوكمة العالمية، فيقول “سنشجّع السلوك الديمقراطي. لكننا لن نروّج للديمقراطية من خلال التدخلات العسكرية المكلفة أو بمحاولة الإطاحة بالأنظمة الاستبدادية بالقوة. لقد جربنا هذه الأساليب في الماضي. ومهما كانت النوايا حسنة، إلا أنها لم تنجح. سنشجع الآخرين على إجراء إصلاحات رئيسية، وإلغاء القوانين السيئة، ومحاربة الفساد، ووقف الممارسات غير العادلة”.

ما جاء في خطاب بلينكن عن سياسته الجديدة في الدفع بالحياة الديمقراطية في العالم يلتقي مع المشروع الذي كان قد أطلقه بايدن خلال حملته الانتخابية، واقترح خطة متكاملة لإقامة قمة عالمية للديمقراطيات وذلك خلال العام الأول من حكمه بهدف “إعادة تعزيز الديمقراطية في الساحة العالمية” حسب شعار القمة الذي كان قد أطلقه.

واللافت أن بايدن كان قد حدّد في خطابه الهوية السياسية للمدعوين إلى هذا المؤتمر في حال انعقاده بوصفه القادة الذين سيحضرون “بأن عليهم أن يكونوا مستعدين للتعاون والتعهد بالتزامات مؤكدة للتصدي للفساد والنهوض بحقوق الإنسان في دولهم”.

إلا أن هذه القمة تصطدم اليوم بأحداث السادس من يناير الماضي، والتي نظر إليها خصوم الولايات المتحدة بأنها زعزعت صورة الديمقراطية الأميركية في العالم وإمكانية واشنطن بالدعوة إليها بعد اليوم بعد أن اهتزت مصداقيتها، حتى وصل الأمر بالناطق الرسمي للخارجية الصينية، هوا تشونين، أن تصرح “ربما يفخر الأميركيون بأنفسهم وبديمقراطيتهم وحريتهم، لكن بعد الكثير من الفوضى السياسية فسيأملون أن يتمكنوا من القيادة مثل الصين”.

التحديات التي تفرضها الصين تحتل أعلى سلّم أولويات سياسة الخارجية الأميركية، وقد توقّف عندها بلينكن بإسهاب حيث قال “علاقتنا بالصين ستكون تنافسية عندما ينبغي أن تكون كذلك، وتعاونية عندما يلزم الأمر وعدوانية حين الحاجة. وسيكون العامل المشترك في التعامل مع الصين هو التعامل من موقع قوة”.

ويتابع واضعاً آليات هذه السياسة ويحتكم فيها إلى العمل مع شركاء الولايات المتحدة وحلفائها لأن تأثير التحالفات سيكون من الصعب تجاوزه من طرف الصين، ويفيد “يتطلب الأمر منا الأخذ بالأساليب الدبلوماسية والتعامل مع المنظمات الدولية، لأننا عندما انسحبنا إلى الوراء، فإن الصين ملأت ذلك الفراغ. إنه يتطلب التصدي للدفاع عن قيمنا عندما تُنتهك حقوق الإنسان في شيانجينغ أو عندما تُسحق الديمقراطية في هونغ كونغ، لأننا لو لم نفعل ذلك، فإن الصين ستتخذ إجراءات حتى بقدر أكبر من الإفلات من العقاب. وهذا يعني ضرورة الاستثمار في العاملين الأميركيين والشركات الأميركية والتكنولوجيا الأميركية، والإصرار على تكافؤ الفرص، لأنه حينما يتحقق ذلك سيكون بمقدورنا منافسة أي طرف”.

وفي الولايات المتحدة، التي قامت أصلاً على سواعد المهاجرين إليها من كل بقاع الأرض أملاً بتحقيق الحلم الأميركي وبناء حياة جديدة في بلد الحريات والفرص والحقوق الإنسانية المتكاملة، لا بدّ لملف الهجرة الشائك أن يطرح على طاولة البحث من أجل إيجاد الحلول اللازمة لمعالجة أزمة قوانين الهجرة وإيجاد حل دبلوماسي لائق يتعامل بإنصاف مع موجات الهجرات التي لن تنقطع إلى الأراضي الأميركية.

ويطرح بلينكن رؤيته للتعاطي مع تعقيدات ملف الهجرة والمهاجرين ويقول “نحن بحاجة إلى معالجة الأسباب الجذرية التي تدفع الكثير من الناس إلى الفرار من ديارهم وأوطانهم ولذا سنعمل عن كثب مع البلدان الأخرى- وخاصة جيراننا في أميركا الوسطى– لمساعدتهم على توفير أمن مادي وفرص اقتصادية حتى لا يشعر الناس أن الهجرة هي الطريقة الوحيدة لتوفير حياة أفضل لأطفالهم”.

فصل المقال في خطاب بلينكن يكمن في تصدّر الصين لجوهر خارطة الطريق السياسية لوزارة الخارجية كخصم لدود أكبر وتحدّ أعظم للولايات المتحدة؛ بينما تختفي إيران وراء حجاب من الاستعارات لسياساتها المربكة في المنطقة والمهددة للأمن القومي الأميركي وأمن العالم إثر تهديدها المباشر لاستقرار وسيادة دول الشرق الأوسط.

بلينكن يشير إلى حاجة تعاون دول العالم أكثر من أي وقت مضى إذ لا يمكن لأي دولة مهما كانت قوية أن تعمل بمفردها لمواجهة التحديات العالمية

إن اقتراب إيران من امتلاك سلاح نووي مدمّر إلى جانب إخفاق المجتمع الدولي في تنفيذ العقوبات الرادعة بالقدر اللازم لمنعها من هذا الطموح العسكري الذي تهدف من خلاله إلى تعزيز سياساتها القائمة على انتهاك سيادة دول الجوار وتصدير أذرع حرسها الثوري على هيئة ميليشيات عقائدية عابرة للحدود ترتبط بعمليات حربية ‏تهدد الوجود الأميركي المدني والعسكري في الشرق الأوسط وفي أي مكان آخر تصله يد مسلّحيها الطولى، لهو التحدّي الأعظم للولايات المتحدة كما يراه العديد من أصحاب القرار السياسي من الضفة الحزبية الأخرى في واشنطن.

‏وقد كان من المحرج لإدارة بايدن أن تتخذ حكومة طهران موقفاً سالباً من دعوة واشنطن للعودة إلى طاولة التفاوض من حيث انتهى إليها اتفاق فيينا للعام 2015، وأصرّ نوابها أن لا تكون العودة إلا بعد رفع العقوبات الأميركية، وهو الأمر الذي يعارضه الجمهوريون في الكونغرس ‏ويؤيدهم العديد من الديمقراطيين المعتدلين الذين كانوا أصلاً ضد اتفاق فيينا، الذي أبرمه في حينه، جون كيري، وزير خارجية الرئيس الأسبق أوباما.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى