خمس أساطير بشأن الثورة السورية* روبرت فورد
النشرة الدولية –
وافقت خلال الأسبوع الماضي على إجراء مقابلة مع منتج أميركي للمحتوى الإذاعي من أقصى تيار السياسة الأميركية. ولقد وجه إليّ الدعوة نظراً إلى مقال كتبته في مجلة «فورين بوليسي»، في فبراير (شباط) من العام الجاري، يدعو إلى انسحاب القوات العسكرية الأميركية من الأراضي السورية. (ومع ذلك، فإن إدارة الرئيس بايدن باقية في شرق سوريا حتى اللحظة). ولقد قبلت دعوته نظراً إلى أن اليسار المتطرف في الولايات المتحدة وأوروبا يواصل نشر الأكاذيب والأساطير حول الثورة السورية، ومن المهم ألا يتحول طرحهم المتطرف للأوضاع إلى النسخة المقبولة من الأحداث الجارية.
الخرافة الأولى تتعلق بأن الثورة السورية كانت تحت سيطرة المتطرفين السلفيين منذ بداية الأحداث. وذكرت في تلك المدونة الصوتية زيارتي الأولى إلى مدينة حماة في يوليو (تموز) من عام 2011 التي تحدثت خلالها مع عشرات من أبناء المدينة في حركة الاحتجاج الهائلة هناك، حيث قام رجل واحد فقط من بينهم بسبّ العلويين والإساءة إليهم. ثم التقيت في دمشق كثيراً من المواطنين المسيحيين الذين انخرطوا في صفوف حركة الاحتجاج الشعبية، ثم سمعنا القصة في أواخر عام 2011، وشاهدنا المادة المصوّرة لعدد من المسلمين الذين يعتمرون قبعات «بابا نويل» وينضمون إلى المتظاهرين المسيحيين في سوريا. بطبيعة الحال، غيّرت أعمال العنف اللاحقة من صبغة حركة الاحتجاج السورية، إذ اكتسبت الحرب الأهلية صبغة طائفية قميئة ومريعة بحلول عام 2013. ومع ذلك، رأينا بأُم أعيننا أن أغلب أعمال العنف في عام 2011 نشأت من طرف قوات الأمن الحكومية التابعة لنظام بشار الأسد.
الخرافة الثانية التي تعيَّن علينا دحضها افترضت أنه من دون التدخل العسكري الأميركي كانت الحرب الأهلية السورية ستنتهي بوتيرة سريعة من تلقاء نفسها. وعندما اقترح مضيفي على الحكومة الأميركية وقف التدخلات العسكرية من جانب تركيا، ذكّرته بأن الرئيس التركي لا يطلب الإذن من البيت الأبيض للاهتمام بمصالح بلاده. وتطلب البلدان الأجنبية، في بعض الأحيان، المساعدة من الولايات المتحدة، غير أن طلب المساعدة يختلف تماماً عن طلب الإذن. إذ يعكس نشر الحكومة التركية لآلاف الجنود في سوريا أنه في وجود أو غياب الولايات المتحدة، كان من الممكن لبعض دول الجوار، والبلدان الإقليمية التدخل في سوريا وقوفاً إلى جانب قوى المعارضة.
الخرافة الثالثة تتعلق بأن حكومة بشار الأسد لم تستخدم الأسلحة الكيماوية ضد الشعب السوري. ويدور المنطق حول أن الأسد يرغب في تجنب الانتقادات الدولية وبالتالي يُحجم عن الاستعانة بالأسلحة الكيماوية في الحرب. ويصرّ منتج المدونة الصوتية على وجود فضيحة ما في تقرير أحد الخبراء الدوليين المنشور في عام 2019 بشأن الهجوم السوري بالأسلحة الكيماوية في أبريل (نيسان) من عام 2018 في دوما في غوطة دمشق. غير أن هناك كثيراً من التحقيقات الدولية التي أُجريت حول استعانة بشار الأسد بالأسلحة الكيماوية خلال السنوات التسع الماضية، وليس فقط ما يتصل بحادثة دوما لعام 2018. والأهم من ذلك، أنه بعد قصفه للمستشفيات والمدارس واغتيال عشرات الآلاف من المواطنين في السجون، لماذا يظن أي شخص أن الانتقادات الدولية سوف تردع بشار الأسد عن أفعاله؟ لقد سقط هذا الطرح سقوطاً مدوياً في مواجهة الأدلة الدولية الكاملة والمؤكَّدة لاستخدام الأسد للأسلحة الكيماوية ضد أبناء شعبه.
بطبيعة الحال، كان لزاماً علينا الجدل بشأن خرافة محاربة الأسد للمتطرفين وأن الولايات المتحدة كانت تبعث بالمساعدات لتنظيم «القاعدة» هناك. لقد تجاهل مضيفي متعمداً حالة التعاون التجارية التي جمعت بين الأسد وعناصر تنظيم «داعش» الإرهابي عبر رجال أعمال سوريين بارزين من شاكلة حسام قاطرجي. كما تجاهل أيضاً إطلاق نظام الأسد سراح العناصر المسلحة من سجن صيدنايا في عام 2011. لقد ركز الأسد وجيشه جهودهما على مواجهة «الجيش السوري الحر» أولاً. ولا بد لي من الإقرار بأن بعض الأسلحة الأميركية قد وقعت بين أيدي المتطرفين من تنظيم «القاعدة». ولقد خلص جاكوب جانوفيسكي، وهو المهندس التشيكي الذي عكف بعناية على دراسة مئات المقاطع المصورة لمختلف الجماعات المسلحة، إلى أن «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش» قد حصلا على أقل من عشرة صواريخ أميركية طراز «تاو» من «الجيش السوري الحر». كما استولى المتطرفون كذلك على الغالبية العظمى من أسلحتهم من الجيش الحكومي السوري ومن جيش نوري المالكي العراقي. وبطبيعة الحال، كان هناك تنسيق بين «الجيش السوري الحر» مع «جبهة النصرة» في بعض العمليات المشتركة ضد القوات الحكومية السورية، وكان ذلك من الأخطاء السياسية الفادحة التي حذرت الحكومة الأميركية من الوقوع فيها. وذلك هو السبب في إدراج الولايات المتحدة لـ«جبهة النصرة» على قائمة المنظمات الإرهابية في عام 2012.
أخيراً، ناقشت مع مضيفي الخرافة الأخيرة القائلة بأن العقوبات الأميركية هي السبب الرئيسي للجوع في سوريا. بحكم الأمر الواقع، تُلحق العقوبات الاقتصادية الأميركية الأضرار بالمواطنين السوريين. وتواصل العقوبات عرقلة دخول أموال النقد الأجنبي إلى سوريا، فضلاً عن ارتفاع سعر الدولار الأميركي مقابل الليرة السورية، الذي يصاحبه ارتفاع أسعار المواد الغذائية المستوردة. كما تعيق العقوبات وصول النفط المستورد إلى سوريا مما يؤدي إلى صفوف طويلة أمام محطات التموين بالوقود هناك. لكنني ذكّرت مضيفي بأن حكومة الأسد تعاني من فساد واسع النطاق، وأنها أعاقت بنفسها الاستثمارات في البلاد، وزادت من معدلات البطالة، والنزوح (التهجير) الداخلي من شرق سوريا قبل عام 2011. ولم يكن من قبيل المصادفة انضمام المجتمعات ذات الدخول المنخفضة في ريف دمشق وريف حمص على الفور إلى حركة الاحتجاج الشعبية في عام 2011 للمطالبة بالحق في العدالة الاجتماعية والمساءلة من الحكومة.
يميل اليساريون إلى إلقاء التبعات على الإمبريالية الأميركية في الثورة السورية. ومن وجهة نظرهم، فإن السوريين ليسوا هم اللاعب الرئيسي في الأزمة السورية. بدلاً من ذلك، كما يزعمون، إنه بإمكان الولايات المتحدة التلاعب بملايين المواطنين السوريين بكل سهولة. والمنطق الأخير لوجهة نظرهم، والذي يشيع بين عشرات الآلاف من أنصار الأسد الذين يعيشون بكل راحة ويسر في أميركا الشمالية وأوروبا بعيداً على أيدي أجهزة الأمن والاستخبارات السورية، يقول إن السوريين يفتقرون إلى الحكمة الدافعة إلى بناء حكومة أفضل. ومن الواضح تماماً أن الشعب السوري بمفرده، وليس الأجانب، هو الذي يمكنه إصلاح سوريا بصورة دائمة، وأن بثّ الخرافات الكاذبة حول الصراع الجاري لن يفيدهم في شيء.
* خاص بـ«الشرق الأوسط»