حجر الأوبسيديان الثلجي* آلى حميدي

النشرة الدولية –

الحرة –

يصادف عن “حُسْنِ نيّة”، أنّي اقتنيت أكبر مرآة أنتيكا في سوق الأدوات المستعملة أو الترجمة الحرفيّة من الإنجليزيّة “سوق اليد الثانية”. الفضاء العام لتجمّع الأدوات “المُستَهلَكَة”. أشياء ملّ أصحابها من رؤيتها، تهالكت بصريّاً، حتّى تحوّلت لفائض لا حاجة له. أو الاحتمال الأسوأ، أداة أرشيفيّة على شكل أثاث أحياناً، تطفو عليها ذكريات غير مرغوب في اجترارها.

أواصل الذهاب بين الحين والآخر كلما شعرت بالملل أو لتفادي يوم أحد طويل، لا لسبب واحد قائم بذاته يحدّد رغبتي المستمرّة في اكتشاف ما تم التخلّص منه، والاستيلاء عليه بثمن زهيد. بل أسباب عدّة؛ منها محاولات ترويض رغباتي السيئة بالحصول الدائم على أشياء جديدة، انساها بعد أيّام من شرائها. الأشياء الجديدة اللائقة، المغلقة بإحكام، المقدمة بطريقة مخادعة على أنها لم “تلمس” من قبل، صُنِعَت بسهولة دون مرورها على أيدي نساء وأطفال من سيئين الحظ في المقلب الآخر من كوكب الأرض مقابل دولار واحد في اليوم، أبداً، منتج لامع ونظيف صنع بإتقان خصيصاً لـ”مالكها الوحيد”، المُستَهلِك المدلّل، المُستَهلَك بجميع الأحوال. والجميع يصدق ذلك، أما أنا فأتجاهل كل هذه الانتهاكات، مبررة ذلك بأني أهرب من القضايا الكبرى، لأني تعبت من البحث وراء كل مفهوم ومعاداته. وأيضاً ما الفائدة؟ وجودنا بالنسبة إلى “الكون المعروف” لا يتعدى الـ12 ثانية، هذه الفكرة بعيداً عن التدقيق بمصداقيتها، بدأت تريحني من جميع أنواع القلق المزمن والعابر.

يُسمّى الـ”Obsidian”، بإمكاني منحَكِ سعرا مُغريا ويغمز بعينه من وراء نظارته البرتقالية، يعجبني ذلك، أعني قدراته التسويقيّة وأدعه يسترسل. تتحوّل يده بحركة سحريّة إلى ملقط معدني ممسكاً بعناية الحجر باتجاه الضوء: “ليست حُلي أو إكسسوار قابلة للارتداء”.

لكن انظري جيداً إلى انعكاس الألوان الداكنة في باطنه، هنا تتحالف مختلف أنواع الطاقات الضوئيّة مُشكّلة بما يرغب به الجميع: السعادة.. يتلو كلماته تلاوةً تجعل من يسمعه يقتنع به كشخص مهتم بـ”بعلم الجيولوجيا”، لا بائع في سوق الأدوات المستعملة، أو “جامع” للدقة “جامع مُستَهلَكات”. لكن خبير في محرك البحث غوغل. أقدّر هذا المجهود في التسويق للبضاعة بدعمها بمعلومات مثيرة للاهتمام مع القليل من الخيال والقفز فوق الواقعية.

هذا تماماً ما افتقده في الأسواق الضخمة، المرتبة، “النظيفة”. الحديث والتحديق في عيون الآخرين. التحديق المستبدل بتلك الرنّة اللعينة، الناتجة عن مسح الشيفرة المعلقة على كل قطعة، شيفرة مرقمنة بانتظار استخدامها، وليس بغرض فضح اللصوص في حال قرر أحدهم سحبها والمرور من خلال الحساس دون الدفع، بالطبع لا.

الـ obsidian، أدون الاسم في تطبيق الملاحظات، لأعود لاحقاً للبحث عن المعلومة المثيرة التي قدمها لي جامع الأحجار.

السَّبَج ويعني “الخرز الأسود” في اللغة العربيّة، “الخرز الأسود!” ساحرة فعلاً هذه اللغة. ماذا أيضاً؟ حجر بركاني، غير مُتَبَلْوِر. متشقّق السطح، مُبقّع بنقاط بيضاء تشبه ندف الثلج. غني بحمض السيليسيك، الحمض الفعّال في تشكيل الأحفوريات مثل الحفاظ على الأشجار والغابات المتحجرّة. “لكن أين طاقة السعادة التي تحدّث عنها البائع؟ اللعين لم يخبرني عن أيّة غابات متحجّرة، كنت اشتريته دون مساومة”.

جميل، يستعمل أحياناً في صنع المرايا. مبهرة قدرة تحويل حجر خام بسطح غير متساوٍ إلى أكثر الأسطح انسيابيّة في الوجود. لكن مهلاً، أين ذهبت ندف الثلج أثناء عملية تهذيب الحجر وتطويعه؟ لم أر في حياتي سطح مرآة مُصابة بندفٍ من الثلج!

أنظر إلى المرآة، أتذكر كلام أمي المتكرّر خلال فترة طفولتي ومراهقتي، عندما تلاحظ جلوسي الطويل أمام المرآة والتحدث إليها، مؤكدة بأن الفعل الذي أقوم به محرّم، سيودي بي إلى الجنون وإصابة عقلي بالمس من قبل الجن، الأمر الذي سيدفعني للوقوع في شهوة جسدي إذا ما تجرأت بإظهار انعكاسه عارياً، خاصة في الليل. وهذا ما حصل.

هلع محارم التواليت.. أبريل 2020

أقف أمام الرفوف المخصّصة عادةً لعرض محارم التواليت، رفوف مرتبّة ومدروسة بدقة من الأغلى إلى الأرخص بحسب المواد الخامة المصنعة منها. “أين هي؟ لا أراها!” رفوف فارغة تماماً إلا من أسعارها. “ورق تواليت؟ لا هذه مزحة!” تخيّلت العديد من السيناريوهات فيما يخص نهاية جنسنا البشري على هذا الكوكب؛ سواء تخيّلات باجتهاد شخصيّ أو استلهاماً من الأفلام المتنبئة بالـ”الأبوكاليبس”. أقلّها سيناريوهات دراميّة مفعمة بـ”حبكات تراجيديّة”، مثلاً: البحث عن يابسة تغلبّت على طوفان المياه الناتجة عن ذوبان الثلوج في القطبين بسبب الاحتباس الحراري، أو الاستماتة على الحفاظ على آخر رضيع بشري تبقى بين جموع مصابة بالعقم من كبار السن..الخ الخ. بمعنى؛ سيناريو أكثر جديّة واتزان من التدافع والتقاتل على آخر لفافة من ورق التواليت! حسنا، من الممكن أن يكون سيناريو جيد يلائم الأجواء التهكميّة المتداخلة بسياقات رمزيّة تسخر من الوجود والصور النمطيّة في علاقاتنا مع ذواتنا ومع الآخرين كما في أفلام وودي آلن.

لا مشكلة، علينا أوّلاً أن نعترف أنّ الاتزان والمنطق في الأهوال والأوبئة أو “الجوائح” فعل شائك يتطلب عين موضوعيّة ووجود فيزيائي على مسافة أمتار من المحيط الهلع، جنباً إلى جهد ذهني ذاتي حيادي، مما يعني صعوبة فائقة لا يستهان بها.  وهنا تفسير حالة هلع كحالة الهجوم على ورق التواليت تتطلب كل ما ذكر أعلاه أو أكثر.

للدقة، الأمر حمّال أوجه بأبعاد ومشاعر متنوعة تتمازج مع سياقات مثيرة للاهتمام، إذ أنّ الفكاهة وابتكار النكات، والمميز حوله مرغوب ومهم في فضاء مُصاب بالخوف والقلق، مع مزيج من سيناريوهات كوارثيّة متتاليّة خاصة من أصحاب نظرية المؤامرة، في حال كان اكتشاف مصل مضاد بحاجة إلى الكثير من الجهود الطبيّة والعلمية والوقت هذا إن وجد. لكن بالنظر تاريخيّاً إلى العداوات والحروب في كل بقعة جغرافيّة ماضيّاً وحاضراً، التدافع على أشياء حملناها مصادفةً حد الاستماتة_أحياناً_ مع المختلف سواء جغرافيّاً، دينيّاً أو ايديولوجيّاً أيّ كانت، للحصول على القيم الأغلى من سيطرة ونفوذ وأموال، أفعال لا تقل سخفاً وعبثيّة للحفاظ عليها وامتلاكها عن فعل النهم المرتبط بتموين لفافات ورق المرحاض، خصوصاً في الخوض ايضاً بذات السياق العبثي فيما يتعلّق بالبديهيات كالعمر البيولوجي مثلاً لأي بشري لا يزيد عن المئة عام في حال كان الحظ حليفه، هذا الرقم يستدعي التساؤل عن جدوى أي نزاع بتنوع درجاته. عبثية صراعاتنا البشريّة على اختلافها تفتح الأبواب عند وقوع الأوبئة والكوارث المشتركة بيننا جميعاً إلى الكثير من التساؤلات، منها مدى جديّة عدّة مفاهيم نتغنّى بها في كلّ مناسبة في أوقات “الرفاه والسلم” الظاهري؛ من حضارة وتطوّر ومثل إنسانيّة عُليا. إلى أن تقع كارثة أو وباء لتتحول هذه المفاهيم إلى خطاب رفاهية مقارنة بالاحتياجات الأساسيّة من طعام وماء وصحّة، وأخيراً ورق تواليت!

يستدعي الفعل الهستيري المرتبط بتخزين ورق التواليت إلى التساؤل عن جدوى هذا التسابق العبثي في تكديس منتج لم يتجاوز اختراعه مئات السنين. بالإضافة إلى كونه لا يعد من الأساسيات للبقاء على قيد الحياة أو النجاة في حال نقص موارد تعتبر الأوليّة على حساب المنتجات التكميلية. إلا أنّه ظاهرياً يعتبر منتج مثالي. غير قابل للتلف، سهل التخزين، والاستخدام

المثير للاهتمام في هذا السياق، (كان) التسابق في الحصول على أكبر عدد من أكياس المحارم وكأنها مسألة حياة أو موت. لكن من بعيد يبدو وكأن الفايروس أصاب المتسابقين بعدوى التكديس لا أكثر. وكأنهم في محاولة للوصول إلى شعور السيطرة وسط محيط يتداعى، أعني التحكم في “نظافة” جسد مهدد بالإعياء والعدوى والموت، أمام كائن مجهري غير مسيطر عليه وغير قابل للمواجهة بالأسلحة والقصف بالطيران، وكأنها محاولة للحفاظ على واحدة من وسائل مكملات الحياة اليومية، كوسيلة واهمة للاطمئنان على وجود قدرة (وإن كانت هشة ضمنياً) في العيش برفاهية للأبد، وإن كان هذا المفهوم مهددة بالفقدان في أي لحظة، لا مشكلة، الحل في السباحة داخل بركة من لفائف الورق معاد التدوير بينما العالم يهلع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى