تعبيرات جمالية قويّة بتقشّف لوني هائل… رسومات أنس سلامة تذكّر من ناحية بسقوط المطر في الأيام الشتوية الكئيبة وبانهمار الصواريخ من ناحية ثانية
النشرة الدولية –
صحيفة العرب – ميموزا العراوي
تعوّد الفنان الفلسطيني السوري متعدد الوسائط أنس سلامة الرسم بالقهوة، أو بعبارة أدق الرسم بفوران أشبه بغلاية القهوة، مشكّلا من الحبات البنية تراجيديا موجعة لوطنه الذي لم يره مطلقا. وطن يستدعيه في ذاكرته مع انبلاج كل فجر جديد وهو يرتشف قهوته الصباحية، كي ينثر بقاياها على قماشته، مأساته وملهاته في الآن ذاته.
القهوة بالنسبة للأكثرية الساحقة من الشعب العربي أكثر بكثير من مشروب ساخن وفوّاح يؤخذ فور الاستيقاظ صباحا. هي ليست مشروبا منبها بقدر ما هي حالة عامة تغلي وتفور وتبث عطرها ومذاقها الطيب لتحتضن شاربها قبل أن تطلقه في نهاره، أقل توترا ممّا يفترض أن يكون لينتج قدر المُستطاع ممّا عليه من مشاغل في عالم يغلي ويفور، ولكن ليس لصالح الشخص الذي يتحضر للقيام بأعماله اليومية.
لذلك ليس من الغريب أن تدخل القهوة إلى عالم التشكيل الفني كمادة ناطقة بأحوالها ورهن إشارة فنان مثل الفنان الفلسطيني/ السوري المتعدد الوسائط أنس سلامة.
الرسم بالقهوة، والتلوين برواسبها وتلقف الأشكال التي تظهر بالصدفة حين تُسكب على مساحات الورق ومشاركتها الفنان في تأسيس نص بصري لا يقل أهمية عن باقي النصوص الفنية، ليس بأمر جديد على الفن العالمي. فثمة عدد من الفنانين الذين استخدموا القهوة كمادة في لوحاتهم، ونذكر منهم كارين إلاند وستيفن ميكيل.
أعمال معظم هؤلاء الفنانين هي أعمال “جميلة” تعيد رسم روائع فنية أو تقدم مشاهد أو زخارف تزينية. أما في العالم العربي فهناك أيضا فنانون قدموا أعمالا لافتة، ولكنها شبيهة بالأعمال المذكورة آنفا لناحية كونها أعمالا تجسّد وجوها فنية معروفة أو مشاهد تزينية من طبيعة وما إلى ذلك.
ونذكر من هؤلاء الفنانة السعودية إيمان سراح والفنانة التشكيلية المصرية مروة علي التي قالت عن فنها “أعشق هذا النوع من الفن.. رسم المطربين والممثلين والممثلات المصريين والأجانب، خصوصا في ذكرى ميلادهم أو وفاتهم”. ونذكر أيضا الفنان الأردني أحمد القرعان الذي رسم عددا من صور الشخصيات الشهيرة بالقهوة مستخدما الفناجين بدلا عن اللوحات.
بعيدا عن التقنية الفنية البارعة جدا في رسومات الفنان أحمد القرعان، وبعيدا عمّا قدّمه الفنانون الآخرون الذين استخدموا القهوة حبرا في لوحاتهم، تأتي لوحات سلامة لتشكّل حالة فنية جديدة ومفارقة أكثر نضجا وتعبيرا.
حالة ليست بجديدة في فنه وقد شكّلت مشروعا عمد من خلاله إلى مراكمة “يومياته” منذ اندلاع الأزمة السورية. فقد قال الفنان عن هذا المشروع الذي أطلق عليه عنوان “بقايا غلاية قهوة” أنه “مشروع لم ينته، ولن ينتهي؛ لأنه أصبح جزءا مني ومن أدوات الرسم ببقايا القهوة”.
المتابع لصفحته الفيسبوكية يلاحظ بأن الفنان، فعلا لم يتخلّ عن هذا الفن، بل استمر فيه وبنشر المزيد ممّا يحلو لنا أن نسميه “يومياته البصرية”.
وهذه التقنية الحميمة اللصيقة بيومياته لا يميّزها فقط استخدام القهوة وأحادية لونها (هذا إذا لم نذكر تدرجاتها اللونية من الأشدّ عمقا حتى تدرجاتها الفاتحة) بل تميّزها قدرة الفنان على التعبير القويّ عبر تقشّف لوني هائل.
إضافة إلى ذلك، اختياره للمضمون غير التزييني هو أمر لافت ويرتقي إلى أهم ما يقدّمه التشكيل العربي المعاصر. مضمون عبّر فيه الفنان عن أقسى درجات الخوف والتوتر والألم، الذي اختبره في مخيم اليرموك الفلسطيني بقلب سوريا. وما من أحد لا يعرف ماذا حدث هناك؟
إن كان الفنان رسم الكثير من يومياته على وقع القذائف وأزيز الطيران وتدافع سيارات الإطفاء والإسعاف، فهو اليوم على ما يبدو يرسم المزيد منها مُستندا على الذاكرة. ولا تخونه الذاكرة. ولن تخونه، فهي تعطي رسوماته عمقا أكبر ظهر فيه تروّ جديد لريشته دون أن يجرّد الأخيرة من قوة الشعور.
هي أعمال تذكّر في العديد منها بأعمال الإسباني فرانشيسكو غويا حيث تواطأ الضوء مع الظل عندما أنتج أعمالا أحادية اللون تصوّر الحرب وفظاعة الإجرام والمجاعة، إن عبر مشاهد مفتوحة أو من خلال ملامح الأشخاص المرسومة.
وهناك أمر إضافي لا يمكن إلاّ ملاحظته، وهو أن الفنان أنس سلامة في رسوماته المشغولة بالقهوة (ليست التي تتناول المرأة أو العشاق) تتبنّى الخطوط أو التركيب شبه العمودي، فبدت “محتويات” رسوماته تنهال طوليا على قماشة لوحاته وأوراقه لترشح عنها وتيرة مُرتجّة تذكّر من ناحية بسقوط المطر في الأيام الشتوية الكئيبة، وبانهمار الصواريخ من ناحية ثانية.
وتأخذنا أجواء أعماله إلى ما قاله الفنان يوما واصفا تجربة الرسم تحت وقع سقوط الصواريخ والقذائف التي كانت تئز فوقه “كل لوحة كانت بالنسبة لي احتمالا لأن تكون آخر لوحة. كنت أتساءل: هل أستطيع إنجازها إلى النهاية أم أنها ستكون اللوحة الأخيرة؟”، ويتابع قائلا “حينها كانت السماء تظهر بمثابة حائط تخترقه القذائف”.
والفنان أنس سلامة هو من مواليد مخيم اليرموك الفلسطيني في سوريا، درس الديكور والتصميم الداخلي في المعهد التابع للأونوروا والرسم والنحت في مركز أدهم إسماعيل، بالإضافة إلى دراسة الإعلام في جامعة دمشق.
وتنوّعت أعماله بين الرسم التشكيلي ورسوم الأطفال و”المالتي ميديا” وتصميم الأفكار وإخراجها لوسائل المالتي ميديا للأطفال. وإذا كانت رسوماته المشغولة بالقهوة أعمالا لافتة، فإن ما قدّمه على صعيد الكاريكاتير، لاسيما كل ما تناول الثورة السورية ونتائج الحرب يستحق اهتماما كبيرا لبلاغة التعبير وصدقه. صدق لا لُبس فيه تُعبّر من خلاله ما جرى على تسميته تقليديا بالألوان الفرحة، عن عمق المأساة ودرامية التفاصيل المأخوذة من عالم الطفولة.