بايدن وبوتين.. ماذا بعد التصعيد؟* مصطفى فحص

النشرة الدولية –

هي ليست الانتكاسة الأولى، وعلى الأرجح لن تكون الأخيرة، في العلاقة ما بين البلدين، لكنها بدأت تأخذ طابعا شخصيا، سيترك أثره على شكل ومضمون القرارات التي ستتخذ من الجانبين في المرحلة المقبلة. فما قاله الرئيس الأميركي جو بايدن عن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ليس زلة لسان، وما تعليق البيت الأبيض حول موقف الرئيس إلا ليؤكد ذلك. وهذه ليست المرة الأولى التي يعبر فيها بايدن عن رأيه الخاص في نظيره الروسي. ففي آخر لقاء جمعهما في موسكو سنة 2011 خاطب بايدن بوتين قائلا “لا أجد لديك روح”.

 

بالنسبة للنخب السياسية والأمنية الروسية، فإن تصريح بايدن قطع الشك باليقين بأن انتخابه يتعارض مع مصالح روسيا، ويُشكل خطرا على شكل العلاقة بين البلدين بسبب تمسك بايدن بمفهوم الاستثنائية الأميركية وتفوقها، واستعداده لحمايتها من أي تدخلات خارجية خصوصا عبر الإنتخابات الرئاسية. ففي رأي الإنتلجنسيا الأميركية أن محاولات موسكو التأثير في الإنتخابات ضد بايدن كانت بمثابة هجوم استباقي روسي لتجنب مواجهة سياسية مناهضة لروسيا مستقبلا، فتقدير المخابرات المركزية الأميركية حول التدخل الروسي بالانتخابات يرى “أن القادة الروس رأوا انتخاب الرئيس بايدن المحتمل على أنه غير مواتٍ للمصالح الروسية وأن هذا دفع جهودهم لتقويض ترشيحه”. فهدف الكرملين كان إضعاف مكانة الولايات المتحدة على الساحة الدولية عبر التأثير على سياساتها الخارجية.

 

تعتقد موسكو أن الإدارة الحالية لن تسمح لها بمزيد من المنافسة الجيوسياسية، وتريد أن تضع حدا لتوسعها الاقتصادي في أوروبا، لذلك من الممكن أن تكون هناك عقوبات إضافية على مشاريع نقل الغاز الروسي إلى أوروبا، وجرّ الناتو إلى مواجهة في أوكرانيا وممارسة ضغوط في بيلاروسيا، ودفع أنقرة إلى تحديد خياراتها في القوقاز وشرق المتوسط.

 

بالنسبة لموسكو، فان الدولة العميقة (الاستابلشمنت) ستعيد تكرار تجارب سبعينييات القرن الماضي، والتي شهدت حينها تدهورا في العلاقات الثنائية وفتح مجالات واسعة لمواجهة غير مباشرة جرت على أراضي طرف ثالث كان أبرزها في أفغانستان.

 

في تلك المرحلة كان تركيز واشنطن على التواجد السوفياتي في أفريقيا والشرق الأوسط وكوبا، وكيفية تقويضه، واستفزاز المؤسسة العسكرية الروسية وهوسها بتحقيق التفوق الإستراتيجي ما أدى إلى سباق تسلح تقليدي ونووي مُكّلِف، ومنافسة حلف وارسو في أوروبا، إضافة إلى التصعيد الممنهج حول سجل حقوق الإنسان في الاتحاد السوفياتي، والانفتاح على الصين بهدف محاصرة موسكو.

 

المربك بالنسبة للكرملين أن الإدارة الأميركية الجديدة  أقرب في تعاطيها مع موسكو إلى تلك الحقبة التي لم تعد فيها موسكو تشكل خطرا وجوديا عليها، إلا أنها وفي طريقها إلى المواجهة الاقتصادية مع بكين تخطط أولا إلى عزل موسكو ومحاصرتها بهدف إخراجها من المعادلة، عبر إعادة تعزيز العلاقات عبر الأطلسي، وتعهدها بحماية أوروبا من التهديدات الروسية الأمنية العسكرية والاجتماعية، وإعادة إحياء رباعية المحيط الهندي – الهادي (أميركا، أستراليا، الهند واليابان) ورفض التفاهم حول سوريا وإيران وليبيا وكل ما يتعلق بالمجال الحيوي الروسي.

 

انفعال الرئيس بايدن وتقرير الأجهزة الأميركية حول تدخل موسكو في الانتخابات يكشف عن صراع أخلاقي بينهما، باعتبار أن موسكو تشكل خطرا على القيّم المدنية والليبرالية وحقوق الإنسان التي تتبناها واشنطن، وهذا ما يكشف عن تناقض صريح بالأفكار، قد يستخدم كغطاء عقائدي في صراعاتهما المقبلة، خصوصا وأن النخب الروسية تتحدث عن مقاربة ثقافية تتعارض مع أفكار المؤسسة الأميركية ولا يمكن مهادنتها.

 

وفي هذا الصدد كتب إيغور بشينيتشنيكوف، في صحيفة “إزفيستيا” مقالا تحت عنوان (مريض أميركي) قال فيه “من وجهة نظر العقل السليم، فإن تصريح بايدن وأي شيء تفعله المؤسسة بيديه مجرد هراء، بل هو أشبه بهوس ديني تعانيه المؤسسة الليبرالية الأميركية، إذا صح التعبير. وهذا، للأسف، مرض لا يعالج، وما علينا إلا أن نأخذ هذا في الحسبان ونكون مستعدين لتفاقم جديد لهذا الهوس الذي يعانيه المريض الأميركي”.

 

مما لا شك فيه إن توصيف بايدن لبوتين قد استفز الهيبة الروسية المرتبطة عضويا برمزية بوتين، الذي تمنى الشفاء لبايدن في رده الهادئ عليه، هذا الهدوء يعود إلى دراية روسية بأن الأزمة مع واشنطن ستحدث عاجلا أم آجلا، وقد تأخذ أشكالا مختلفة، لكنها لن تصل إلى مواجهة مباشرة، لذلك تتصرف موسكو وكأن ما حدث لم يكن مفاجئا ولم تلجأ إلى التصعيد، واكتفت باستدعاء سفيرها وليس سحبه بانتظار ما ستقوم به واشنطن من خطوات مستقبلية لا تبدو أنها إيجابية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى