لو كان جونسون ليبرالياً لما دمرت حكومته الاستبدادية بريطانيا!* رايتشل شابي
النشرة الدولية –
في كتابها المعنون “كيف تُضيع بلداً؟” How to Lose a Country والذي يدور حول كيفية تآكل الديمقراطية عن طريق اليمين الشعبوي، تحذر الكاتبة التركية إيس تيميلكوران، من أن معارضي هذا الاستبداد الذي يتسلل إلى حياتنا كتحد يواجه البلدان في أنحاء العالم، لا يسجلون ما يحصل فعلاً إلا بعد فوات الأوان.
ثمة افتراض بأن قوة ما أو مؤسسة ستتدخل لوقف هذا التسلل، غير أن الإيمان بأن ذلك سيحدث خاطئ وليس في مكانه. وتقول تيميلكوران إن ” كل نقاط الارتكاز الموثوقة والراسخة هذه يجري صهرها في نهاية المطاف”.
وتضيف، “وتُترك البلاد لتواجه القوة الوحشية التي يطلق لها النظام العنان، وبلا الحماية المتخيلة من قبل أية مؤسسة حكومية أو ممارسة ديموقراطية”.
وبدا الأمر على نحو متزايد كما لو أن بعض المؤسسات الصحافية البريطانية لا ترقى إلى مستوى الممارسة الديمقراطية التي من شأنها أن تكبح حكومتنا أو تُخضعها للمساءلة، مع انتشار حزب المحافظين على نحو سرطاني وتحوله إلى مشروع شعبوي فاز بأغلبية برلمانية، كانت هناك قلة قليلة من أجراس الإنذار أو الأضواء التي تومض منبهة، وبدلاً من ذلك كانت هناك ثرثرة وسائل إعلام معنية بالتطبيع مع الوضع الجديد، رسمت صورة بوريس جونسون كشخص عادي يأكل الكعك والمربى، ورئيس وزراء محب للحرية وليبرالي اجتماعياً.
حسناً، لقد أقرت حكومته حالياً قانوناً استبدادياً للشرطة من شأنه أن يسمح بالبطش الشديد بالاحتجاجات، ويُجرم مجتمعات الغجر والرحالة. ووصف أحد أعضاء البرلمان قواعد هذا القانون بأنها “فضفاضة وكسولة من شأنها أن تجعل وجه ديكتاتور ما يحمّر خجلاً”.
لا يمكن أن يكون التناقض بين الواقع السياسي وكيفية تصوير وسائل الإعلام له، صارخاً أكثر مما هو في هذه الحالة، وهناك فيض من الأمثلة على طريقة تصوير رئاسة وزرائنا الحالية بشكل يهدف إلى تجميل شكلها، فالتعليقات التي تنشرها صحيفة “ذا تايمز” وحدها مليئة بإشارات إلى رئيس الوزراء تصفه بأنه “ليبرالي بالفطرة” ويتمتع بـ “غرائز ليبرالية” وغرائز هي “ليبرالية وغير أيديولوجية، سخية عموماً وجريئة في اندفاعتها”.
وفي صحف أخرى، يُوصف رئيس الوزراء بأنه يحوز “غرائز ليبرالية عميقة الجذور حول عدد من الأشياء”، باعتباره ” ليبرالي اجتماعياً” و”رئيس وزراء ليبرالي اجتماعياً وعازم على التحديث”. وكانت الافتتاحية التي نشرتها صحيفة “دايلي ميل” عشية انتخابات العام 2019 زعمت أن جونسون كان “ليبرالياً منفتحاً على الخارج، ومحافظاً من تيار الأمة الواحدة (المعتدل)”.
وبحلول ذلك الوقت، كان رئيس الوزراء علّق عمل البرلمان وهدد بانتهاك القانون الدولي.
واستقال العشرات من أعضاء البرلمان عن حزب المحافظين أو تم طردهم من الحزب بسبب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ونظراً لإمعان الحزب في التشدد اليميني. وعلى حد تعبير نيك بولز، وهو أحد هؤلاء النواب، فإن “جونسون هو حقاً ترمب البريطاني، وهو يحول حزب المحافظين والحزب الوحدوي في إيرلندا الشمالية إلى نسخة من الحزب القومي الإنجليزي اليمني المتشدد. لا بد من إيقافه عند حده”. كان جرس الإنذار يدق، لكن وسائل الإعلام اليمنية التوجه كتمت صوت ذلك الجرس.
والمفارقة أنه حتى إساءة إدارة الجائحة بشكل فضائحي في العام الماضي قد صُورت وكأنها نتيجة مؤسفة نجمت عن ميول رئيس الوزراء الليبرالية. مثلاً، كتب روبرت بيستون، وهو المحرر السياسي لقناة اللتلفزيون البريطانية الثالثة “آي تي في” قائلاً عن تأخير جونسون في فرض الإغلاق، “لو كان لدى جونسون فلسفة سياسية فهي تتمثل في أنه لن يقيد حرياتنا ما لم يكن هناك سبب قاهر للقيام بذلك”. يردد المعلقون ما يسمعونه في إطار إحاطات إعلامية حول امتناع جونسون عن تقييد حرياتنا، وبذلك يُعاد رسم معالم فشل سياسي مروع كلف عشرات الآلاف من الأرواح، بحيث يبدو وكأنه ناجم عن إفراط مؤسف في الكياسة الليبرالية المنسوبة لجونسون.
وهكذا فإن واقع حكومة متشددة بشكل متزايد يبقى يتراقص على مسرح التحليل الإعلامي من دون إخضاع سياساتنا لتقويم حقيقي. ويعود الفشل في ذلك جزئياً إلى قوة حرف الأنظار التي تتمتع بها الاستثنائية البريطانية، وتتمثل في أن الانزلاق نحو مزيد من الاستبداد يحصل فقط في دول نائية. يدل هذا الموقف على وجود عقدة تفوق بريطانية تفسر الأزمات التي تشهدها بلدان أخرى على أنها نتاج أحقاد قديمة أو طائفية أو عدم النضج السياسي، مما يؤدي إلى خلق غشاوة تمنع العيون من رؤية مدى تفكك الأشياء في أي مكان، حالما يبدأ الانهيار.
وربما يكون من الصعب اكتشاف الاستبداد حين يصدر عن المعسكر الذي تنتمي إليه أيديولوجياً.
ومما يسهم في تكريس هذه الصعوبة في بريطانيا هو أن وسائل الإعلام من جهة، والطبقات السياسية من جهة أخرى، غالباً ما تشرب من نبع النخبة نفسه، الأمر الذي يتمخض عن نوع من الألفة بين الطرفين تشكل غشاوة على العيون، فتمنع أصحابها من تقويم الأوضاع بشكل محايد ودقيق. وعلاوة على هذا، فإن سحر جونسون الذي يبعث على الضحك صُقل بعناية لتبديد النقد، بحيث يستطيع شخص مواهبه في السياسة لا تزيد على مواهب مبتدئ في الفن، أن ينزع السلاح من أيدي المعلقين ويجهض انتقاداتهم.
وأياً كانت الأسباب، فإن النتيجة هي أشبه بالسقوط الحر في لجة اليأس بين التقدميين الذين كانوا حذروا من الإعصار السياسي الذي يُعمل تدميراً ببريطانيا حالياً. يتعرض قطاع القضاء والمحامين لدينا إلى الهجوم من جانب الحكومة والمصفقين لها في وسائل الإعلام، كما يواجه الصحافيون ممن يمحصون ويستقصون الهجوم ذاته أيضاً.
سعت الحكومة إلى تقويض سيادة القانون، وذلك من خلال وضع استثناءات تعفيها من قيود عدة، وهي تضع قانون حقوق الإنسان ومؤسسات ليبرالية مثل مفوضية الانتخاب نصب عينيها تمهيداً للقضاء عليها، وقد منعت هذه الحكومة المدارس من استخدام مواد مأخوذة من (كتاب ومجموعات) “مناهضة للرأسمالية”، زاعمة أن إعطاء الدروس عن امتياز العرق الأبيض يعتبر سلوكاً غير قانوني، وفي هذه الأثناء تبدو قيادة حزب العمال وقد تملّكها الهلع من مواجهة المناخ الشعبوي اليميني الذي نجد أنفسنا فيه، أو أنها ربما لا تفهم تماماً هذا المناخ، وهذا كله صادم وانعزالي في الوقت نفسه، كما تلفت الكاتبة تيميلكوران قائلة، “إذا لم تكن قيمك الأخلاقية منظمة بشكل سياسي، فإن من الممكن أن ينتهي بك الأمر إلى الشعور بالعزلة”، وهذا هو السبب الذي يؤدي غالباً إلى تحفيز حركات الاحتجاج في لحظات كهذه، كما يفسر أيضاً لماذا نشهد حالياً حملات شجاعة وتحديات قانونية مستمرة للإجراءات الاستبدادية التي تتخذها الحكومة.
القوة التي لاتزال باقية هي قوتنا كجماعة حين نقف بعضنا مع بعض، لكن ما يبقى أيضاً حتى الآن هو الإحساس الذي لا يتزعزع بضرورة وجود مزيد من صفارات إنذار تصم الآذان حقاً عبر وسائل الإعلام.