المبادرة السعودية والمزاج الدولي* تاج الدين عبد الحق
النشرة الدولية –
حتى لو اعتبر البعض أن المبادرة السعودية بشأن الأزمة اليمنية، هي محاولة من الرياض للخروج من ”ورطة“ وأنها تحمل في طياتها تراجعا عن مواقف سابقة، بل حتى خطوة إلى الأمام في محاولة سعودية، لاحتواء ”الرعونة “ التي يصعّد فيها الحوثيون هجماتهم ضد المملكة، فإن ذلك لا يقلل من قيمة المبادرة ولا من أهميتها كتطور سياسي لافت.
فمن حيث المبدأ، فإن السعودية ليست الدولة الوحيدة في العالم التي تُراجع مواقف، أو تغير سياسات، وتكتيكات كان ثمة مَن يراها ثوابتَ لا تتبدل، أو خطوطًا حمراء لا يمكن تجاوزها. والأمثلة في التاريخ القريب والبعيد كثيرة وعديدة.
فالولايات المتحدة -التي لا تزال تخوض حربا ضد حركة طالبان منذ ما يزيد على عقدين- انتهى بها المطاف للجلوس إلى مائدة التفاوض، والقبول بتسويات وحلول مع الحركة، لم يكن أحد يعتقد أنها ممكنة، أو مقبولة.. وقبلها دخلت الولايات المتحدة في محادثات مطولة مع حركة الفيتكونج الفيتنامية، والتي توجت بخروج الولايات المتحدة من فيتنام بعد حرب طويلة كلفت واشنطن عشرات الآلاف من القتلى والجرحى، فضلا عن خسائر مادية بالمليارات .
الأمر نفسه حدث مع الاتحاد السوفيتي السابق في أفغانستان، وأدى في نهاية المطاف لخروج القوات السوفيتية من هناك، ناهيك عن الحروب الأهلية التي فرّخها تفكك المنظومه السوفيتية السابقة، والتي أدخلت موسكو في مفاوضات وتسويات للخروج من أزمات وحروب أهلية وعرقية ورثها الاتحاد الروسي الحالي، من الحقبة السوفيتية السابقة.
إلى ذلك فإننا سنجد صعوبة في حصر العديد من الأزمات الدولية والإقليمية التي انتهت بالمتحاربين إلى موائد التفاوض، وإلى نوع من التسويات التي بدَت في وقتها مستحيلة وغير ممكنة.
ومع التأكيد أن الوضع في اليمن هو وضع مختلف، فإن عمليات التحالف العسكري هناك لم تكن قرارًا سعوديًّا فحسب، بل هو قرار حظي بتأييد من الأمم المتحدة. صحيح أن المملكة تحملت -بحكم الوضع الإقليمي والتاريخي- العبء الأكبر من تبعات الأزمة وآثارها، إلا أن ذلك لا ينفي أن العمليات العسكرية وإمدادات الإغاثة، وحتى عمليات الإعمار والتأهيل، كانت تعبّر عن إرادة المجتمع الدولي ككل وليس عن مصلحة السعودية أو مصلحة دول التحالف فقط .
لكن يبدو أن المزاج الدولي إزاء الوضع اليمني، يشهد -الآن- مقاربة جديدة مختلفة تتطلب نوعًا من التكيف، مع معطياتها واستحقاقاتها. وليست قرارات إخراج الحوثيين من قائمة التنظيمات الراعية للإرهاب، هي المثل الوحيد على هذا التغير في تلك المقاربة. إذ يبدو أن الأزمات الإنسانية التي نتجت عن الحرب الأهلية اليمنية منذ عقود، والتي مهدت لتدخلات إقليمية، قد جعلت عمليات التحالف في السنوات الأخيرة عرضة للنقد، وحمّلتها وزر الحرب بكل تداعياتها ومظاهرها، ووضعتها بشكل مغرض في موضع اتهام يصعب دفعه، بسبب ما تحمله صور الدمار والخراب من ضغوط على المجتمع الدولي؛ الذي لم يعد قادرا على قبول الحرب تحت أي عنوان وبأي مسمى، خاصة وهو يواجه كارثة الكورونا بكل أبعادها الإنسانية والاقتصادية.
والسعودية إذ تطرح مبادرتها الجديدة، فهي جزء من هذا المزاج الدولي، ولا تعتبر نفسها نقيضا له، أو في موقع مواجهة معه، وهي لا تفعل ذلك إلا بوحي هذا الفهم؛ حتى لو كانت الكلفة السياسية، والتبعات الاقتصادية عليها أعلى مما يتحمله الآخرون.
فالمملكة عندما قادت عمليات التحالف في اليمن، لم تقم بذلك منفردة، بل بإسهام إقليمي ودولي؛ ولذلك فإن من الطبيعي -الآن- البحث ضمن الإطار الدولي عن حلول سياسية، بعد أن تراخت فيما يبدو إرادة المجتمع الدولي لفرض تسوية حاسمة، كما أرادت الأمم المتحدة، عندما انطلقت العمليات العسكرية التي أعقبت الانقلاب الحوثي، واستفحال التمدد والتدخل الإيراني.
أهمية المبادرة السعودية الجديدة، لا تكمن فقط في قدرتها على التعاطي مع المتغيرات الأخيرة في كيفية التعاطي الدولي مع الأزمة اليمنية، وخاصة ما يتعلق بالبعد الإنساني منها، بل في أن هذه المبادرة تسحب البساط من تحت أرجل الذين يعطلون التسويات السياسية، بالتستر وراء أزمات وكوارث جُلّها من صنعهم وبأيديهم .