“الإثنين الأسود” في لبنان* فارس خشان
النشرة الدولية –
النهار العربي
في كتاب “كيف أرى العالم؟” خطّ ألبير آينشتاين قولاً ينطبق، للأسف، على حالة لبنان الراهنة.
لقد كتب آينشتاين:” النظرية هي أن نعرف كلّ شيء، ولكن لا شيء يعمل، أمّا التطبيق فيكون عندما تتيسّر الأمور، ولكن من دون أن يعرف أحد السبب. هنا، جمعنا النظرية والتطبيق معاً: لا شيء يعمل، ولا أحد يعرف السبب”.
حتى مساء يوم الإثنين الأخير، كنتُ أتردّد في إسقاط مقولة آينشتاين هذه، على الواقع اللبناني، ولكنّ “فظاعة ما حدث” دفعتني الى الحسم والحزم، إذ راحت وسائل الإعلام اللبنانية ومواقع التواصل الاجتماعي، تنقل تباعاً تصريحات ومواقف لكبار المسؤولين اللبنانيين، أقلّ ما يمكن أن يُقال فيها إنّها إعلان نهاية وطن على لسان هؤلاء الذين يرفضون، ليس أن تنتهي أدوارهم فحسب، بل أن يتنازلوا عن مكسب واحد من مكاسبهم السلطوية، أيضاً.
بدايةُ “الإثنين الأسود” كانت مع رئيس الجمهورية ميشال عون الذي أعلن، في مقابلة صحافية له، أنّ “مصير الوطن ومستقبل اللبنانيين على المحك”.
في هذه المقابلة عاب عون على الرئيس المكلّف تشكيل الحكومة سعد الحريري ” النكايات أو العناد الشخصي”، في حين أنّ عون، أسهب في شرح الأسباب التي تدفعه الى المعاندة في رفض كل نقاش، في مشروع حكومي طرحه الحريري، لأنّه لا يناسب لا رؤيته هو، ولا “واجباته الوطنية”، ولا “مشروعيته الطائفية”، ولا تطلعات حزبه الذي عهد بأمره الى صهره جبران باسيل.
ولم يتأخّر الحريري في الرد، فإذا به، من موقعه الدستوري، يسأل الله الرأفة باللبنانيين.
وقبل أن يستوعب اللبنانيون هذا الجدل الأبوكاليبسي بين عون والحريري، أطلّ رئيس مجلس النواب نبيه برّي، من موقعه السلطوي الثابت على مدى عقود، ليستعير من وزير الخارجية الفرنسية جان ايف لو دريان تشبيه لبنان بسفينة تايتانيك التي “سوف تغرق بنا جميعاً من دون استثناء”.
وبعده مباشرة، اطلّ رئيس الحزب التقدمي الإشتراكي النائب وليد جنبلاط ليقول إنّه خائف من الفوضى مستذكراً “كيف انزلقنا الى الحرب في العام 1975”.
ماذا يعني كل ذلك؟
لو كُتب هذا المشهد في أيّ رواية سياسية، لاستهجن النقّاد هذا الجموح في الخيال، واستعانوا بفقهاء الدستور ليؤكدوا أن الكاتب عجز عن المواءمة بين ما يتخيّل وبين الواقع، ولسارع المسؤولون الى مقاضاة الروائي والناشر معاً، إذ إنّه يستحيل أن يتم تشخيصهم وكأنهم ينحدرون فعلاً الى هذا المستوى من العبث المصيري.
ولكن في لبنان لم تعد ثمة حاجة لا الى الرواية ولا إلى الخيال، ففيه ابتدع المسؤولون نظريات استثنائية، بحيث يعفون أنفسم من كل مسؤولية، من دون أن يتخلّى أيّ منهم عن منصبه.
ومن أجل تعميق هذه النظريات، ذهبت أجهزة الدعاية لديهم بعيداً، بحيث صوّرت المآسي التي يعيشها اللبنانيون جزءاً من الجنّة بالمقارنة مع ما كانت عليه الحال، لو أنّ “رئيسهم المفدّى” لم يكن في الموقع الذي هو فيه.
ووفق هذه النظريات، فإنّ رئيس الجمهورية الذي يرفض كل مساءلة عن أي حدث سيّئ، يريد أن يفرض رأيه، على كل شيء في البلاد، تحت طائلة تعطيل كل القرارات، فيفتعل المشاكل ويولّد المصائب ويُنشئ الكوارث، وذلك كله باسم “حماية اللبنانيين”.
ورئيس الحكومة حسّان دياب الذي يتولّى إدارة شؤون الدولة، يرفض أن يتحمّل أيّ مسؤولية على قاعدة أنّه مستقيل، وهو “مضطر” أن يصرّف الأعمال، وتالياً على اللبنانيين توجيه الحمد والشكر له، على ما يبذل من تضحيات في سبيلهم.
والرئيس المكلّف تشكيل الحكومة، لم يعد يملك حلّاً في وجه الشخص الذي ساهم، خلافاً لكل النصائح، في إيصاله الى رئاسة الجمهورية، سوى توكيل الله باللبنانيين، على اعتبار أنّ كلّ حل لا يمر، وفق تصوّره للأمور، سيكبّر حجم الكارثة التي يعاني منها اللبنانيون.
ورئيس مجلس النواب المستحكم بالسلطة التشريعية والشريك الدائم في كل ما يخص السلطة التنفيذية، يتحدّث عن البلاد وأحوالها، وكأنّه الأمين العام للأمم المتحدة.
والأمين العام ل”حزب الله” حسن نصرالله الذي يفرض توجهاته فرضاً، مستعيناً بخلفية عسكرية وأمنية ناشطة جداً، وبما سمّتها الولايات المتحدة الأميركية، في بيان تخصيص مكافأة لكل من يدلي بمعلومات عن سليم عيّاش، بفرقة الإغتيال التي يأمرها نصرالله مباشرة، يُسارع الى غسل يديه من تبعة كلّ الكوارث التي تحصل في البلاد التي يتحكّم بها، على اعتبار أنّه هو فقط “سيّد الإنتصارات” في لبنان وسوريا واليمن والبحرين وايران وصولاً، ربّما، الى فنزيلا وكوريا الشمالية والصين، خصوصاً وأنّه بدأ يعتنق، مع “مموّليه” نظريات ماو تسي تونغ، وفق تحديثات شي جي بينغ و”طريق الحرير”.
إنّ الكارثة الكبرى في هذا المشهد تتمثّل في أنّ مقولة آينشتاين عن الفارق بين النظرية والتطبيق، على سخريتها، تنطبق على لبنان، اذ إن هناك إجماعاً على أنّ الدولة تنهار، ولكن الخلاف يحتدم على تحديد السبب.
وعليه، لم يعد ممكناً توافر أيّ حل ينبع من التوافق اللبناني، في وقت لا يُرتجى فيه أيّ حل يأتي من الخارج.
لم يخطئ أبداً كلّ منْ وضع لبنان في مصاف سوريا واليمن والصومال، حيث لا ينتج هذا التفاعل الكيميائي بين الحاكم المجنون من جهة، والخارج العاجز من جهة أخرى، سوى الموت والجوع والهجرة والذل والكوارث.