جورج يرق وهاجس الحرب اللبنانية… عالم يسوده القتل المجاني وثمن الإنسان رصاصة واحدة

النشرة الدولية –

زاكروس عربية –

من الصعب بمكان إحصاء الأعمال الأدبية العالمية التي تناولت الحروب والصراعات المسلحة على مر التاريخ الإنساني.

فمنذ كتابة التاريخ والحرب كانت وما تزال ملازمة لجميع مراحل تطور البشرية، وإذا ما بحثنا عن أقدم النصوص الأدبية التي تناولت الحروب والصراعات المسلحة نجد أمامنا الملحمتين الإغريقيتين ” الإلياذة والأوديسا ” للشاعر يوناني ” هوميرس “، اللتان تعبران عن عدد من الحروب التي وقعت في تلك الفترة، ومن وقتها والأدب العالمي يتناول موضوع الحرب بأنواعها سواء كانت حرب شاملة أو محدودة أو حرب عصابات أو حرب داخلية أو حروب الوكالة.

أفرز الأدب العالمي عددا من الأعمال الروائية الخالدة التي طرحت موضوعات الحرب نذكر هنا رواية الحرب والسلام للروائي الروسي الكبير ليون تولستوي وهي ملحمة روائية تناولت الحروب التي خاضتها روسيا في القرن التاسع عشر ومنها الحملة العسكرية الفرنسية بقادة نابليون على روسيا والتي انتهت بهزيمة وتشتت القوات الفرنسية على الأرض الروسية.

والحرب اللبنانية الأهلية حرب داخلية طاحنة تعتبر من أبرز الحروب الأهلية التي نشبت في القرن العشرين واستمرّت 15 عاما (1975-1990) وما تزال صورها المؤلمة والقاسية شاخصة في عيون اللبنانيين،  وقد جادت قريحة الأدباء والكتّاب بقصص وحكايا الحرب وخفاياها ونتائجها على الصعيد الأفراد والمجتمع من خلال أعمال أدبية كان لها الأثر والوقع الكبير على القراء.

جورج يرق روائي لبناني عمل في الصحافة والتدقيق اللغوي ومحرراً في أهم دارين للنشر في بيروت قبل أن يطرق باب عالم الرواية، عايش فترة الحرب في لبنان وعانى من ويلاتها وانعكاساتها، قرأ وسمع وشاهد الكثير من قصص الحرب المرعبة وتفاصيلها المؤلمة والتي ما تزال صورها عالقة في الاذهان. كان لي معه هذا الحوار عن بعد بسبب ظروف الجائحة التي منعت الكثير من السفر.

هل أضاف جورج يرق الصحفي شيئاً لجورج يرق الروائي؟

“جئت للصحافة من الأدب. فضلت العمل في الصحف لمجاراته مزاجي الذي لا يستسيغ التعليم، وهو الملجأ الذي يذهب إليه الكثيرون ممن ابتلوا بحرفة الأدب، في الكتابة الصحافية حرصت على النفس الأدبي من حيث المتانة في التعبير والتشدد في الحرص على سلامة النحو والصرف، خصوصا إبان عملي سكرتير تحرير في غير صحيفة ومجلة، أي زبّالاً أدبياً ينظف النصوص من العيوب والعثرات، بكلمتين عندما جئت إلى الرواية نفضت عن القلم كل ما علق به من العمل الصحافي الذي يتصف بالاستعجال وبشيء من التساهل مع اللغة العربية”.

رواية ليل أول عمل روائي للكاتب وعن فكرة الرواية يذكر جورج يرق في شهادة له نشرت في كتاب (حكاية الرواية الأولى)، منشورات قنديل “عندما غدا موقع التواصل الاجتماعي فايسبوك حديث الناس، قررتُ أن أكتب رواية مستوحاة من هذا الموقع الاجتماعيّ. لم أكن أعرف شيئاً عنه إلا اسمه وتوفيره فرصة لإعادة إحياء صلات صداقة وقربى مفقودة. والأهمّ سهولة التعرّف بالنساء. أنشأت فيه حساباً باسم مستعار وبدأت التجربة وسرعان ما عثرتُ على فكرة الرواية، اخترت الراوي مقاتل من حزب القوات اللبنانية لسببين، الأوّل لأنّه حزب اعتُقل رئيسه واضطُهد المنتسبون اليه وزُجّ بهم في السجون، والسبب الثاني أنّ الرواية اللبنانية تطرّقت إلى الحرب من وجهة نظر يسارية وإسلامية وفلسطينية، وعليه ارتأيت أن آتي الحرب من الزاوية المسيحية. وكان لا بد من الاستعانة بالذاكرة لبناء شخصية الراوي. فأنا لم أكن مقاتلاً. لكنّي عرفت مقاتلين كثراً، من بينهم شاب مثقف عمل في مجال الاستخبارات. تعرّفت به بُعيد انتهاء مرحلة الحرب، وتوطدت علاقتي به بعدما دقّقت لغوياً أطروحة له أعدّها لنيل شهادة الدكتوراة في الفلسفة”.

ليل

بعد ليل جاءت حارس الموتى، الرواية الثانية للكاتب والتي رشحت ضمن القائمة القصيرة للرواية العربية عام 2016 حيث لاقت صدى واستحسان كبير لدى القراء والنقاد على السواء حيث عدوها ذات نكهة فريدة وخالية من الاحالات التي تذكر القارئ برواية سواها.

لماذا يكتب جورج يرق عن الحرب رغم مرور السنوات الطويلة على طي آخر صفحاتها المظلمة ؟

الحرب لم تزل مستمرة، المدفع توقف فقط. ليس جديداً أن الحرب خزان ثري بالموضوعات الصالحة للكتابة. في حارس الموتى التي استوحيت فكرتها من شاب عمل في ثلاجة الموتى، وكان يروي لي مشاهداته وما يحصل معه خلال النهار حيث وجب الرجوع إلى أيام الحرب والاستعانة بمقاتل  لإغناء حركة السرد ورفدها بشيء من التوثيق، براد الموتى أيام المعارك وانفجار السيارات المفخخة وجثث القتلى هو غيره أيام السلم“.

باختصار تبدأ أحداث رواية حارس الموتى أثناء قيام بطل الرواية كعادته بالصيد في الأحراش المحيطة بالقرية يسمع صوت أنين ينطلق من موقع مكب زبالة القرية، و في أثناء اقترابه من المكان يفاجئ بهجوم رجل تغطي وجهه الدماء فيركض هاربا منه و يتبعه الرجل المدمى صارخا: هذا أنت يا ابن ….. إلى أن يسقط غير بعيد من شارع الرئيسي المؤدي للقرية.

في اليوم التالي يعرف البطل من خلال صديقه إنه وإثنين من شباب القرية قاموا باختطاف الأستاذ في مدرسة القرية القادم من قرية مجاورة و ينمتي للحزب وطائفة مختلفة عن أهل القرية لأنه شتم الحزب الذي ينتمي له لغلب أهل القرية فاختطفوه و ضربوه ضرباً مبرحاً ثم رموه في مكب الزبالة.

ينتشر خبر الاختطاف محدثا اضطرابا في القرية وما حولها والتي ظلت إلى ذلك اليوم في مأمن عن ما يحدث في العاصمة المقسمة وضواحيها، ليكتشف بعد ذلك اختفاء ابن مختار القرية وبعدها تكتشف جثة ابن المختار ملقية قرب أحد الأودية. يضطر بطل الرواية للهروب من القرية خشية اتهامه في الضلوع في عملية الاختطاف لأن المدرس يعرفه و يعرف أباه وقد تعرف عليه في ذلك اللقاء المشؤوم.

يغير هذا الحدث من حياة البطل إلى الأبد فيلتجأ الى بيت أحد معارف أبيه الذي يرحب به لبضعة أيام، يقرر بعدها الهجرة إلى أحد أقسام العاصمة المدمرة  يلتحق بعدها عابر بإحدى ميلشيات أحد الأحزاب طلبا للرزق و المأوى بعد إن أمضى بضعة أيام قضاها مشردا في شوارع بيروت غير أن رحلته كمرتزق مع المليشيا تنتهي سريعا ويضطر مرة أخرى للهرب وسط حالة من الخوف والحذر يعشيها البطل حتى بعد أن يعمل في إحدى المستشفيات وتحديدا ًفي براد الجثث.

الخوف والحذر كانا ملازمين للبطل في حارس الموتى لدرجة إنه هجر حياة الحزب والحرب؟   

من الطبيعي أن يكون البطل حذراً وخائفاً بعدما عاش أوضاعاً صعبة من جراء مشاركته في أعمال حربية لا دفاعاً عن قضية ومبادئ، بل سعياً إلى أن يأكل ويشرب وينام، وتبلغ معاناته  الأوج لدى العمل في البراد وحشو الجثث وتنظيفها وهو المسالم والوديع والرافض جميع أشكال العنف حتى إنه ندم على كل عصفور قتله، وهو المشغوف بصيد الطيور، أستطيع ان اقول إنه في جميع مراحل عيشه بقي متوجساً ومرتعباً لآن ماضيه حافل بمحطات ملتبسة تجعله يغفو وعيناه مفتوحتان لأنه في عالم يسوده القتل المجاني وثمن الإنسان رصاصة واحدة“.

كيف استطعت المزج بين الخيال والواقع في حارس الموتى؟

صحيح أن الرواية متخيلة. لكن شخصياتها تغدو حقيقية على الأقل في رأسي لفرط معايشتها طوال مدة التأليف. شخصياتها تغدو حقيقية  استمددت من الحياة ما أسبغ على الحوادث والشخصيات واقعية جعلت القارئ يصدق الرواية، وهذا ما أكدته الأصداء التي بلغتي، وخصوصاً أن الرواية كتبت بضمير المتكلم، فشخصية عابر هي قمرة مجموعة أفراد عرفتهم شخصياً أو بالتواتر وكذلك الشخصيات الأخرى“.

هل تخيفك فكرة الموت أكثر مما يخيفك الموت نفسه؟

‏تخيفني معاناة الأمراض الممهدة للموت. الموت الفجائي إذا شاء الله أن يسترد الوديعة فيا ليت ذلك يحدث في هدوء بلا أوجاع متأتية من مرض، ومن غير الاضطرار إلى دعم الآخرين مع ما يستتبع ذلك من شفقة وتعاطف، أحب عبارة (الموت بين الأهل نعاس) التي توج بها جبور الدويهي مجموعته القصصية الأولى. لولا الموت لكان الإنسان نتيجة العمر الطويل، مات من الضجر. والد أحد أصدقائي كان يقول بعدما بلغ الثامنة والثمانين “ناطر الأوتوكار”. والأوتوكار هو الموت الذي انتظره هذا العجوز ليس كرهاً بالحياة بل هرباً من الملل.

ثورة شعبية واسعة اعقبها تداعيات سياسية واقتصادية وانفجار المرفأ، ما جديد المشهد الثقافي في لبنان؟

الأحداث الجارية في لبنان ابتدأً من ثورة شعبية ووصولاً بانفجار مرفأ بيروت وما أعقبها من مشاكل سياسية واقتصادية وانهيار العملة لم تضف شيئاً جديداً للمشهد الثقافي، لا مفر من مضي بعض الوقت كي يشهد الواقع الثقافي أعمالاً من وحي الثورة وتفجير المرفأ، ظهرت أغنيات في المناسبة لكنها رديئة وبادرة ودون المستوى.

روائي مع قرصنة الكتب

كثير من الاصدارات نجدها متاحة للتحميل والقراءة على صفحات الانترنت دون موافقة الناشر والمؤلف، كيف يمكن السيطرة على هكذا سرقات في فضاء مفتوح؟

أنا مع قرصنة الكتب. فليكن الكتاب متاحاً للجميع في ظل الغلاء والبطالة والفقر. أعرف إن هذا الكلام يستفز الناشرين، لكنه يفرح قلوب الكتّاب إذ أكبر واحد فيهم لا يصل إلى جيبه من مردود البيع سوى الفتات. دلني على كاتب، أياً كانت شهرته، يعيش من مبيع مؤلفاته. الناشر يأكل البيضة وتقشيرتها، ولا يتردد مع ذلك في التأفف والتباكي. دعوتُ المقرصن في إحدى تغريداتي إلى نشر روايتي “ليل” بلا إذن بعدما نشر “حارس الموتى”. بمزيد من الصراحة، نشر كتابك بمثل هذه الطريقة ليس سرقة بل خدمة. لأنه يتيح لعدد غفير من القراء مطالعة الكتاب. اربح قراءً ما دام ربح المال متعذراً“.

كاتب ترك أثره تأثير على مسيرة جورج يرق الادبية؟

‏جميع الروائيين الكبار هم اساتذتي. علمني كل منهم شيئاً معيناً. كذلك تعلمت من الشعراء وكتّاب المسرح والسيناريو واللغويين. أمسك عن ذكر الاسماء وعناوين الكتب خجلاً من الاستعراض الثقافي المفتعل الذي تزخر به الحوارات. تعلمت أيضاً من الروايات التي قرأتها مخطوطةً إبان عملي محرراً ومدققاً لغويًا في دارين كبيرتين للنشر في بيروت هما دار الساقي ودار الآداب“.

كيف يرى جورج يرق  الجوائز الأدبية في الوقت الراهن وهل ساهمت في تسويق العمل الإبداعي؟ 

‏طبعاً، رفعت أسماء مغمورة إلى الواجهة. وأثارت عاصفة من الضجيج برغم أن النقد عاجز عن متابعة هذه الفورة الدفاقة من الأعمال، علما أن النقد المتخصص شبه مفقود. للمناسبة يذكر أن معظم الأصوات التي تهاجم الجوائز وخصوصا ً”البوكر” العربية، أراها متجنية وليست منصفة، بعضها يخفق في الوصول إلى القوائم فينبري للحط من قيمة الجائزة ومن ثم قيمة الروايات الفائزة. المكرّسون هم أعداء الجوائز لأنها تعترف بمنافسين لهم لكنهم يرحبون بها في الصحف والإعلام إذا ذهبت إليهم.

من منظور روائي لبناني، كيف تجد الرواية العراقية في ظل المتغيرات السياسية والاجتماعية والازمات المتتالية في العراق؟

إنها مرآة للتحولات التي شهدها العراق، وهذا ما أتاح لها بلوغ الواجهة مع أسماء أضافت إلى الرواية العربية إضافات واضحة، وهي مثلها مثل الروايات العربية الأخرى تخوض تجريباً مستمراً، وأنا لست مع التصنيف المناطقي، هنالك بيت واحد للرواية العربية بـ”منازل كثيرة“.

إعداد الحوار : راميار فارس أسعد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button