بين أمن الأردن وأمن الإقليم* تاج الدين عبد الحق
النشرة الدولية –
ليست هذه هي المرة الأولى التي يواجه فيها الأردنيون امتحانًا سياسيًّا، ومن المؤكد أن هذا الاختبار لن يكون الأخير . فالأردن الصغير بحجمه ظل كبيرًا بدوره، وعصيًّا بمكانه ومكانته، كبؤرة مستقرة، وسط محيط من الأزمات والصراعات، التي زعزعت استقرار دول أكبر مساحة، وأكثر مواردَ، وأرسخ تجربة.
كان الاستقرار السياسي على الدوام أهم موارد الأردن، وأغلى ثرواته. به استطاع أن يتجاوز الجغرافيا التي حشرته بين قوى متنافسة، حتى لا نقول متصارعة، وبه حفظ مكانه في تاريخ المنطقة حين حافظ على استقراره وسط محيط سياسي مضطرب طوال قرن من الزمان، ونجح في إيجاد مكان مهم له بين دول المنطقة، ودور مؤكد بين اللاعبين الكبار فيها.
أهمية التجربة الأردنية أنها نجحت في الإفلات من سطوة الأيديولوجيا بكل تلويناتها السياسية والدينية والتقليدية، كما نجحت في بناء مؤسسة عسكرية قوية، دون الوقوع في شرك الانقلابات العسكرية التي طبعت الحياة السياسية في معظم دول الجوار الأردني .
لم تستطع قوى اليسار السياسي -التي كانت موضة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي- أن تغير من توجهات واختيارات الأردن السياسية والاقتصادية. فظل قادرا على احتواء التنوعات السياسية بعيدا عن سياسات القهر والإقصاء التي عاشتها تجارب دول الجوار، كما استطاع ترويض القوى التقليدية العشائرية والدينية، دون أن يدخل في صراع سافر معها، ودون أن يتخلى عن الضوابط والحدود التي مكنته من بناء دولة مدنية عصرية.
عزز حياته السياسية البعيدة عن الأيديولوجيا، بخياره الاقتصادي القائم على حرية التملك، والمبادرة الخاصة، فنجح في بناء أنموذج تنموي جاذب للاستثمار، وقادر على مراكمة ثروات رأسمالية، ومؤسسات مالية واستثمارية، رغم شح الموارد وقلة الإمكانيات.
ظل الجيش رديفًا للمؤسسة السياسية وحاميًا لها، وظل في كل المراحل الدقيقة ضمانة للاستقرار الداخلي، لا تهديدًا له. وفي المنعطفات السياسية الكبرى كان الجيش الأردني يبرز في الحياة السياسية بالحدود الضيقة التي لا تجعل منه أداة سياسة، أو تحوله إلى عنصر استقواء على الشرعية الدستورية، أو أداة تغوّل على المؤسسات المدنية والدستورية . وقد تَجسّد هذا الدور فعليًّا في كيفية تعاطيه مع المؤامرة الأخيرة.
ما يجري من تطورات على الساحة السياسية الأردنية حاليا، يجسد طبيعة التجربة الأردنية وخصوصيتها. فرغم ما كانت تحمله هذه التطورات من نُذر التهديد للاستقرار، وما تمثله من خطورة، لا على الأردن فحسب بل على المنطقة أيضا، فإن نجاح الأردن في تجاوز الأزمة، يعود إلى أنه ظل محكومًا بسياسة الاعتدال، وبالأسس التي قامت عليها مسيرة الأردن السياسية إلى الآن.
لم نلحظ -رغم حساسية تلك التطورات- أي شكل من أشكال العنف، ولم يتم التحول إلى عنصر تفتيت للنسيج السياسي، الذي ظل متماسكا دون أن يظهر أي نوع من الانقسام حول المفاهيم الأساسية التي حكمت تجربة الحكم الأردني وعلاقته بالقاعدة الشعبية.. ولذلك لم يكن غريبا أن يتجاوز الأردن هذه الأزمة بسرعة واقتدار في إطار من الهدوء والسلاسة التي كانت تغيب في تجارب عربية مجاورة .
الصدى الواسع الذي تركه الإعلان الأردني عن وجود مؤامرة على أمن واستقرار البلاد، ليس غريبا. فالآثار التي يمكن أن تنجم عن أي مؤامرة من هذا القبيل لا تطال الأردن وحده، ولا يقتصر تأثيرها على اللحظة السياسية الراهنة، بل سيكون لها توابع وارتدادات عميقة على مستقبل المنطقة، وعلى مآل التطورات في باقي دول الإقليم .
فقد أثبتت التجربة أن الاضطراب الأمني والسياسي معْدٍ، وقابل للانتقال، ويمكن أن تكون له تداعيات قد يصعب احتواؤها والسيطرة عليها. ولذلك لم يكن غريبًا أن تجد تطورات الأحداث في الأردن هذا الصدى الواسع عند دول الجوار، وأن تتداعى جميعها للتضامن معه، وتأييد ما يتخذه من إجراءات حيالها .
ما حدث في الأردن قد يكون الضارة النافعة، فقد جسَّدت الأحداث خطورة ما يحمله تهديد استقرار الوطن الصغير، على الإقليم الكبير، كما أنها أكدت حجم التداخل بين الأمن الوطني والأمن الإقليمي.
عن موقع إرم