الشاعرة والقاصة (ريم القمري) تكتب عن: غيوم شمالية شرقية…. أنا و (غيوم شمالية) لزهير كريم

النشرة الدولية –

حين تنجح رواية في شدك يوم كامل في مكانك دون حراك، و تجعلك غير قادر عن الابتعاد عنها الا لوقت محدود تخصصه للأكل على عجل، أن ينتابك ما يشبه الإحساس بالذنب، لانك هجرتها لدقائق معدودة، أو ما يشبه ذلك الشعور بالاقتلاع من الجذور.

تأكد حينها أنك تقف امام رواية استثنائية،  قادرة على جرك و توريطك داخل عوالمها بحيث لا تملك لا القوة و لا الشجاعة و لا حتى الرغبة في الانتهاء من قراءتها.

إنه شعور مزدوج ببن الفضول و اللهفة على الإنتهاء منها ، و بين الرغبة في عدم الانتهاء بعد أن صرت جزء من أجوائها، تلك الأجواء التى تختلط فيها العوالم و تتشابك، حتى يعجز عقلك عن التمييز بين التاريخي الموغل في القدم، تاريخ بغداد المدينة الأسطورة، المعبد بالدماء و الحروب ،و قدرتها دائما على النهوض منه مشرقة و أكثر جمالا، مثل العنقاء التى تنبعث من رمادها. و بين بغداد القرن الحادي و العشرين  _ من جهة اخرى_ و تاريخها الذي لا يقل دموية أيضا، يختلط الماضي القريب بالماضي البعيد، حتى اننا حين نقرأ نقتفي في آثار ابطال الرواية ، آثار شخوص اخرى من عالم السياسة اليوم.

رواية غيوم شمالية لزهير كريم، كانت جواز سفري اليوم ، و كانت رحلتي الممتعة التى غصت فيها و أبحرت بعيدا. رواية من ثلاثمائة و عشرون صفحة، فتحتها منتصف النهار ، انهيتها التاسعة مساء، منذ الجملة الاولى، أدركت اني لن استطيع النوم الليلة دون الانتهاء من قراءتها، بدأتها واقفة على عجل و ما كدت انهي  الفقرة الاولى، حتى أدركت أني انفصلت عن المكان و الزمان ، لذلك جلست و وضعت قارورة ماء قربي و علبة سجائر، و لكني ما أن تجاوزت الصفحات العشر الاولى حتى تخليت عن فكرة التدخين حتى لا اضظر لمغادرة الغرفة للتدخين و اكتفيت بشرب الماء.

تتصل أختى بي و تدعوني للخروج للغداء بالخارج، أجيبها لست هنا الان انا مسافرة في بغداد و تحديدا سنة 1033 هجري  و أحيانا أذهب لبغداد سنة 2004، أغلق السماعة، و اترك صوت ضحكتها معلقا.

كل أجواء الرواية شدتني منذ فصلها الاول، امتلك زهير قدرة رهيبة على وصف الاحدات و وضعها في سياقها التاريخي الصحيح، و صف الأماكن الأسماء الملابس، المعمار ، حتى استعماله لأسماء المهن و الرتب العسكرية و الحكومية في فترة كانت بغداد ولاية تابعة للسلطنة العثمانية، فتخال نفسك في رواية تاريخية مكتملة الشروط ، لكنك كلما تقدمت تكتشف ان هذه قناعة مخادعة و ان الكاتب يخاتلك بذكاء و مهارة شديدة، لتجد ان الماضي ما هو الا انعكاس للحاضر، و ان الكاتب منذ البداية كان يدفعك لان تقرأ ، تفكر و تتدبر ، حتى تصل بنفسك لذلك الارتباط الوثيق بين الماضي البعيد و الحاضر القريب.

انه يحدثك من سنة 1033 هجري، ليصف لك ما حدث سنة 2004، يسحبك دون ان تشعر أو تحس لاكتشاف ذلك بنفسك، انك أنت من يجد الخيط الرابط و من يقرأ الأحداث الماضية على ضوء الحاضر.

جلست لعشر ساعات تقريبا ، تجاهلت آلام ظهري المزمنة، و لأكون أكثر صدقا أحسست انها انتفت تماما، لم أتعب و لم أشعر بالملل، كل شخوص الرواية دون استثناء ، كانوا عبارة عن عوالم معقدة و متشابكة ، على المستوى النفسي خاصة.

من خلال شخصية البطل ” اصلان” نجح زهير في تعرية الجانب النفسي الهش بكل اعطابه و انكساراته و أوجاعه، هذا العالم المشوه و المظلم الذي خرج من رحمه مارد جبار، دمر كل شيء حوله فقط لانه كان عاجز عن إيجاد الحب، شهوة السلطة و الحرب و الدم بما هي تعويض لتشويه نفسي عميق سبقه تشويه جسدي أعمق.

و هنا تفهم اننا بقدر ما نحن جلادون فإننا أيضا ضحايا، ضحايا العنف الاسري و المجتمعي و الجنسي ، ضحايا الفقر و التهميش.

غيوم شمالية ، رواية صالحة لكل مكان و زمان، رواية المدن العظيمة، تلك المدن التى تحمل داخلها بذور دمارها و أيضا بذور انبعاثها من جديد، تلك الروح التى لا تهزم أبدا.

حين أرسل لي زهير نسخة الرواية، كتب لي ” تحياتي ريم العزيزة، اتمنى ان تعجبك.. هي لك للقراءة، اتمنى ان لاتذهب بعيدا عن يديك” .

وفعلا أمسكتها للقراءة و لم تذهب بعيدا عن يدي، صرت جزء من عوالمها، و قضيت يوما مختلفا داخل صفحاتها، تخيلت البيوت و الشوارع و الازقة، و الأسوار، غنيت مع  الجواري الحسان في قصور  بغداد ، و تألمت لموت ” زمردة” حبيبة أصلان، و شعرت بالتعاطف مع أصلان رغم قسوته و دمويته ، تعاطفت لجرحه العميق الذي حوله الى و حش ، الى مسخ.

خاتمة الرواية فتحت آفاق جديدة نحو الحب و السلام و الحرية.

خاتمة تليق بتاريخ بغداد العريق.

وانا أستعد للنوم هذه الليلة، أحس أني ما أزال تحت تأثير أجواء الرواية، الأمكنة و الأحداث سكنتني، و أعرف ان جزء كبير من أحلامي الليلة سيكون بغدادي الالوان و الروائح.

شكرا زهير لأنك تكتب بهذا الجمال و بهذا الإتقان السردي الرائع، لو زرت بغداد يوما ما سأبحث عن الأماكن التي وردت في الرواية، اعرف انها اليوم مختلفة كثيرا، لكني سأفعل كما فعلت انت في الرواية، امزج بين الماضي السحيق و الحاضر القريب في قراءة الامكان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى