“عام نابليون” في فرنسا: رجل الفتوحات والأخطاء* رفيق خوري
النشرة الدولية –
رب ضارة نافعة. حادثة السفينة العملاقة التي جنحت، وسدّت قناة السويس لأيام، أعادت تذكير العالم بثلاثة أمور؛ أولها أهمية موقع مصر، وكون قناة السويس شريان الاقتصاد العالمي، إذ تعطلت مصالح العالم، وكانت الخسائر بمليارات الدولارات. وثانيها دور الفرنسي فرديناند ديليسبس في شق القناة التي عمل فيها أكثر من مليون مصري، وكانت أوبرا “عايدة” لفيردي نجمة الاحتفال بافتتاح القناة أيام الخديوي إسماعيل. وثالثها أن نابليون بونابرت الذي احتل مصر، ثم توجه شمالاً فتراجع بعد الفشل في حصار عكا، تحدث عام 1798 عن مشروع قناة تربط بين البحرين الأحمر والمتوسط.
وهذا العام هو “عام نابليون” في فرنسا، بمناسبة مرور مئتي عام على وفاة الإمبراطور المنفي في جزيرة سانت هيلانة البريطانية. عام احتفالات متعددة بالفقير الذي جاء من كورسيكا إلى باريس، وصار ضابطاً، ثم توج نفسه إمبراطوراً قال عنه الفيلسوف هيغل: “رأيت الإمبراطور، روح العالم على حصان”. فهو كان أكثر من شخصية في شخص واحد: المحارب، والمنظم الهندسي لشوارع باريس، وباني قوس النصر، والمشرع للقوانين، ولا سيما القانون المدني، والعاشق الذي أرسل أرق الرسائل العاطفية إلى زوجته جوزفين من أرض المعارك التي خاضها. مفهومٌ أن الأبطال في بلدانهم ليسوا كذلك في البلدان الأخرى، وخصوصاً في البلدان التي احتلوها. والسؤال هو: ما الفارق بين نابليون الذي غزا أكثر من بلد وهتلر وموسيليني وستالين وجنكيز خان وتيمورلنك والجنرالات الأوروبيين والأميركيين الذين احتلوا آسيا وأفريقيا؟
قيل عن نابليون إن كل معاهدة صنعها بعد احتلال بلد قادت إلى حرب أخرى، لأنه كان يذل خصمه المهزوم. فحين هزم جيش الإمبراطور النمساوي ودخل قصر شوينبرن في فيينا أمسك بأهم تحفة ثمينة وألقى بها على الأرض فانكسرت. وكان يقول بذلك: الأمر لي. وهكذا فعل في إسبانيا التي عين أخاه حاكماً عليها. أما في مصر، فإنه جاء بأول مطبعة مع العلماء والمهندسين والأطباء، وحاول في رسالة أعلنها الإيحاء بأنه دخل في الإسلام. قال لجنوده: “من أعالي هذه الأهرام ينظر إليكم أربعون قرناً من التاريخ”. كان يرى أن “سياسة أي بلد تقررها الجغرافيا”، وشعاره “النصر أو الموت، والمجد مهما حدث”. ارتكب أكبر غلطتين استراتيجيتين في اللعبة الجيوسياسية؛ الأولى هي محاولة توحيد أوروبا تحت قيادته، وهذا ما قاتلت بريطانيا ضده وعملت على تكتيل القوى الأوروبية لمنعه. والثانية هي غزو روسيا، حيث هزمه “الجنرال ثلج”. ولم يشفع له القول إن الفرنسيين لا يستطيعون لومه، لأنه غزا روسيا بجنود غير فرنسيين. وهما غلطتان كررهما هتلر: حاول غزو أوروبا كلها وتوحيدها بقيادته فاصطدم بمواجهة بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي. وغزا روسيا على الرغم من اتفاق “ريبنتروف – مولوتوف” مع ستالين لتحييده، فواجه مقاومة بطولية عنيفة، وفشل في حصار ستالينغراد الطويل، وكان “الجنرال ثلج” في انتظاره.
لمع نجم نابليون بعد أن هزم الإنجليز في معركة “أوسترليتز”. وكانت نهاية مجده هزيمته معركة “واترلو” أمام الإنجليز بقيادة اللورد ولينغتون الذي قال إن “نصرنا في واترلو جرى على ملاعب إيتون”، وهي كلية النخبة البريطانية. وكان الثأر منه بعد الهزيمة نفيه إلى جزيرة إلبا، التي هرب منها وعاد إلى باريس ليجدد دوره كإمبراطور، ثم نفيه إلى جزيرة سانت هيلانة البريطانية. وبعد النفي كان “مؤتمر فيينا” في 1814 – 1815، حيث لعب مستشار النمسا مترنيخ دوراً كبيراً في تركيب نظام أوروبي جديد قائم على “توازن القوى”، لأنه “لا سلام مع نظام ثوري”، و”لا سلام من دون توازن القوى”، كما فهم كيسنجر أفكار مترنيخ. وليس قليلاً ما قاله نابليون إلى جانب ما فعله في فرنسا والبلدان التي احتلها. ففي كتاب “البطل في التاريخ” يسجل الفيلسوف سيدني هوك قول نابليون “جيش من الأرانب بقيادة أسد، أفضل من جيش من الأسود بقيادة أرنب”، وهو كان يعطي في اختيار المواقع للضباط دوراً أساسياً لمعرفة مدى كون الضابط صاحب خط جيد أو لا. والمعادلة في قراراته هي “ثلثا صناعة القرار عملية مبنية على المعلومات والتحليل، والثلث الباقي خطوة في الظلام”، إذ “يجب القيام بشيء للاعتراف بأننا فكرنا فيه”، و”النجاح أعظم خطيب في العالم”. الخبرة علمته أن “حكم الرجال من خلال عيوبهم ورذائلهم أسهل منه عبر فضائلهم”، لكنه اعترف في النهاية بأن “العسكري يقاتل طويلاً وفي ظروف صعبة من أجل خرقة ملونة” هي علم بلاده.
يقول توماس جيفرسون الرئيس الأميركي الثالث “كل شخص له وطنان: بلده وفرنسا”، لكن النظرة إلى نابليون ليست مشتركة بين فرنسا والعالم، بصرف النظر عن واجب الحكم على القادة من خلال القراءة في عصرهم وظروفهم التاريخية. ولا أحد يستطيع تغيير أو تصحيح التاريخ.