مونيكا بورغمان: قتلوا زوجي لقمان سليم لكن عمله مايزال حيا… لم تتخل عن حبها للبنان
النشرة الدولية –
دوشتية فيلية –
الألمانية مونيكا بورغمان تتكهن بالجهة التي قتلت زوجها المثقف اللبناني لقمان سليم. لم تتخل عن حبها للبنان، رغم مقتل زوجها وشريكها في “الهوس” بخوض الموضوعات الشائكة، ومنها البحث عن إجابة للسؤال “لماذا يَقتُلُ الإنسان؟”.
تبدو بورغمان قوية، لكن الدموع تنهمر من عينيها أحيانا حين تتحدث عن خسارتها لزوجها. مقتله لم يكن صدفة ولا بالخطأ، بل هو إعدام، اغتيال سياسي! قتلوا زوجي بست طلقات، تقول بورغمان.
اغتيل المثقف اللبناني لقمان سليم يوم الرابع من شباط/ فبراير 2021، والده محام شيعي ووالدته مسيحية.
عشرات من الملفات وأشرطة الأفلام موضوعة على طاولة خشبية. على الحائط معلقة صورٌ لبيروت المدمرة خلال الحرب الأهلية. موظف يحمل أشرطة الأفلام ويتجه إلى الخارج. الأجواء مليئة بالعمل في الأرشيف العام والوحيد لتاريخ لبنان السياسي المعاصر.
على أريكة جلدية تجلس مونيكا بورغمان، تحتسي القوة وتدخن سيجارة، تنفث الدخان وتقول “نحن غاضبون هنا، والعمل محركنا”، في إشارة منها إلى الأزمة الاقتصادية المستمرة منذ أشهر والاحتجاجات ضد السياسيين والفاسدين. لا يريدون إطلاقا خلق آفاق جديدة للبلد الذي يزداد فقرا بشكل كبير، والذي كان يعرف يوما ما “بسويسرا الشرق الأوسط”، في هذا البلد الوضع ميؤوس منه تماما بالنسبة لكثير من اللبنانيين.
مونيكا بورغمان صانعة أفلام ألمانية تعيش في لبنان منذ عقود مع زوجها، لكنها أصبحت أرملة بعد مقتل زوجها يوم الرابع من شباط/ فبراير الماضي، المثقف اللبناني المعروف ومنتقد حزب الله لقمان سليم.
تبدو بورغمان قوية، لكن الدموع تنهمر من عينيها أحيانا حين تتحدث عن خسارتها لزوجها. مقتله لم يكن صدفة ولا بالخطأ، بل هو “إعدام، اغتيال سياسي! قتلوا زوجي بست طلقات”، تقول بورغمان.
في عودة إلى الماضي، تتذكر مونيكا بورغمان وصولها في يوم رأس السنة من عام 1986 إلى لبنان. كانت تدرس حينها الدراسات الإسلامية وقضت عاما كاملا قبل ذلك في دمشق: “شيء ما قد جذبني إلى هذا البلد”، تقول مونيكا. حبها للبنان ولأهله مازال باقيا رغم خسارتها زوجها.
كصحفية مستقلة عملت في بيروت ثم في القاهرة. أول برنامج إذاعي لها كان حول “يوميات الحرب” في بيروت. دافعها في عملها كان البحث عن إجابات: “كيف يصبح المرء جانيا؟ كيف يتحول المرء إلى قاتل؟ الأسئلة التي شغلت جيلا كاملا من الألمان خلال شبابهم والتي نشأت من الرغبة في توضيح الأسئلة حول تواطؤ ومسؤولية العديد من الألمان خلال الحقبة النازية.
للبحث عن إجابات مماثلة في لبنان أجرت بورغمان بعد الحرب لقاءات مع قناصة ثم مع قتلة شاركوا في عمليات قتل جماعية. كانت تجري بحثا لفيلم وثائقي في عام 2001 عن مذبحة مخيم صبرا وشاتيلا، حين عرفها صديق مشترك على لقمان سليم. فكلاهما “مهووس” بالبحث عن الموضوعات الشائكة، مثلما يقول صديقهما المشترك مازحاً.
منذ ذلك الحين عملت مونيكا بورغمان مع لقمان سليم. كان أول عمل مشترك بينهما هو وثائقي بعنوان “المذبحة”، حول جريمة القتل الجماعية تجاه المدنيين في مخيم صبرا وشاتيلا، وفيه يتحدث ستة قتلة شاركوا في العملية، كيف اشتركوا في تعذيب وقتل الناس في المخيم في عام 1982. على مدى ثلاثة أيام وليلتين قتلت ميلشيات مسيحية آلاف الأبرياء في المخيم.
“أنا ولقمان كنا نكمل بعضنا الآخر”، تقول مونيكا. كانت لديهما مهمة مشتركة: التعامل مع التاريخ. لكنها لم يحصلا أبدا على إجابة لسؤالهما: كيف يمكن لإنسان الوصول إلى مرحلة القتل، بل أن البحث المستمر عن إجابة خلق أسئلة أخرى. وخلال بحثهما في هذه الموضوعات السياسية الحساسة بلغا أكثر من مرة حدود الممكن. إذ لم يكن هناك أرشيف وطني متاح للجمهور يحتوي على شهادات مفصلة ووثائق تاريخية حول فترة الحرب الأهلية، التي استمرت حوالي 15 عاما، لقد اكتشف الأجيال ذلك، لكن كل مجموعة سكانية لديها وجهة نظرها الخاصة للأحداث. كما أن دروس مادة التاريخ في المدارس تتوقف عادة عند استقلال لبنان عام 1943.
رداً على هذا الفشل، أنشأ الاثنان أرشيفاً عاماً وسط الضاحية، معقل حزب الله الشيعي في جنوب بيروت. يهدف مركز “أمم” إلى التوثيق والبحث وربط الماضي بالحاضر. تقول بورغمان إن هذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكن للأجيال القادمة أن تتعلم من الماضي. منذ عام 2005 يعمل “أمم” على سد الثغرات في الذاكرة الجماعية للبلاد. يدعم المركز المعهد الألماني للعلاقات الخارجية (IFA) ووزارة الخارجية الألمانية والسفارة السويسرية. من خلال ورش العمل والمعارض والمناقشات. ويشارك في هذه الدورات نشطاء ومدنيون ودبلوماسيون ومن مختلف الطوائف. تبادل يصعب تخيله في كثير من الأحيان في أي مكان آخر من البلاد.
لم يكن الجميع ينظرون إلى عمل لقمان سليم ومونيكا بورغمان بشكل إيجابي، فمنذ انسحاب الجيش السوري من لبنان عام 2005 ارتفعت نسبة التهديدات ضد صانعي الأفلام، تقول بورغمان، وتوضح:” كلما حدث شيء مهم في البلاد، ازداد الضغط علينا، لكننا لم نخاف على حياتنا!”، حتى وصل الأمر إلى القتل.
حين وجد لقمان مقتولا في سيارته في الرابع من شباط/ فبراير الماضي بست طلقات، طرحت أسئلة عن التوقيت و”لمَ الآن؟”. مونيكا بورغمان ترى أنها في النهاية لا يمكنها سوى التكهن: “ربما كان السبب وراء ذلك هو بحثه عن آثار في انفجار بيروت. فسليم ظهر بعد الانفجار أمام الكاميرات مصرحا أن جزءا بسيطا من نترات الأمونيا كان في ميناء بيروت، وأن المتبقي نقل إلى العراق وسوريا. وفي لبنان المستقطب سياسيا هناك قوى ترى في مثل هذهالنظرية تحميل واضح لها عن المسؤولية.
تقول بورغمان إن هذه الجهات تخطت بقتل زوجها الخطوط الحمر. لم يظهر خطاب تحمل مسؤولية عن عملية القتل، لكن حزب الله والقوى القريبة منه فقدت بمقتله خصما بليغا. فلقمان سليم ولد من أب شيعي محام وأم مسيحية، وعاش في الضاحية الجنوبية في أسرة مثقفة. وقد كان حتى مقتله ناقدا لاذعا لحزب الله وعاش رغم ذلك في الضاحية الجنوبية معقل حزب الله في بيروت، حيث ولد وترعرع. هو نفسه كان يصف نفسه “بالشيعي الملحد” ونظر إلى حزب الله على أنها منظمة تقودها إيران.
عندما اندلعت الاحتجاجات الجماهيرية في لبنان في تشرين الأول / أكتوبر 2019، اجتمع نشطاء ومثقفون في موائد مستديرة لمناقشة وضع الدولة والحلول الممكنة للمشاكل في لبنان. شاركت بورغمان وزوجها لقمان سليم في هذه التجمعات. في كانون الأول / ديسمبر 2019، تحدثا في إحدى هذه التجمعات الحوارية عن مفهوم السياسة الخارجية للحياد وإمكانية إيجاد حلول إقليمية أوسع، بما في ذلك مع إسرائيل المجاورة، التي لا يزال لبنان في حالة حرب رسميا معها. حينها شعر العديد من أنصار حزب الله بالاستفزاز من ذلك وتصاعد الموقف، وقاطعت المجموعة الغاضبة المشاركين ووجهت إليهم الشتائم بصفتهم “صهاينة” وحينها اضطروا جميعا إلى مغادرة الخيمة تحت حماية الشرطة.
تسحب مونيكا سيجارة أخرى، تشعلها، وتضعها بعيدا، تتركها مشتعلة تنثر دخانها في الغرفة. تواصل الحديث وتضيء الولاعة مرارا عندما تتحدث عن عملها الثقافي والفني المشترك مع زوجها الراحل وعن التزامهما في المجتمع المدني وتنهي بالقول:”عشرون عاما، عشنا معا وعملنا معا، قتلوا ربما لقمان، لكن عمله مازال حيا في داخلنا”.