إعادة بناء الدولة* بروجيكت سنديكيت

النشرة الدولية –

نحن في احتياج إلى عملية تحفيز للإبداع والاستثمار في مختلف قطاعات الاقتصاد تتجه من أعلى إلى أسفل، وتقدم لنا أمثلة عصر أبولو من القيادة الحكومية، وعقود المصلحة العامة الجريئة، ودينامية القطاع الخاص نموذجا قيما، وما لم نستخدم هذا النموذج فلن تكون عملية إعادة البناء بشكل أفضل أكثر من مجرد شعار.

من الواضح أن تطوير لقاحات مرض فيروس كورونا 2019 في أقل من عام كان إنجازا كبيرا، لكن طرح اللقاحات كان بعيدا عن الكمال، والواقع أن عملية Operation Warp Speed حققت أهدافها التصنيعية لكنها تعثرت في تنسيق الشحنات الأولية، فلم ترتب الخطة أولويات متلقي اللقاح وفقا للحاجة، ولم تبذل القدر الكافي من الجهد لمعالجة التحيز الـعِـرقي في عمليات التوزيع.

من الواضح أن إنتاج لقاحات آمنة وفَـعّـالة وإنشاء برامج تطعيم عادلة أمران مختلفان، فقد أثبتت وكالات الابتكار الموجهة نحو المهام، وخصوصا وكالة مشاريع الأبحاث الدفاعية المتقدمة (داربا) وهيئة البحث والتطوير المتقدمة في مجال الطب الحيوي (باردا)، كونها شديدة الأهمية في تمويل بدء إنتاج لقاحات mRNA المتطورة، ولكن هل ترتبط المهمة التكنولوجية Warp Speed بالمهمة الصحية المتمثلة في تسليم “لقاح الشعب”؟

يتعين على إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن أن تراعي هذا التمييز وهي تحاول “إعادة البناء بشكل أفضل” وتنشيط تمويل العلوم والتكنولوجيا بعد أربع سنوات من رفض العلم وازدراء العلماء من قِـبَـل دونالد ترامب، يُـظـهِر طرح اللقاح في الولايات المتحدة- وبشكل أكبر في أوروبا- أن الحصول على تفاصيل الشراكات بين القطاعين العام والخاص بشكل صحيح لا يقل أهمية عن البدء بهدف شامل طموح. في كتابي الجديد بعنوان “اقتصاد المهمة: دليل الرحلة إلى القمر لتغيير الرأسمالية”، أزعم أن برنامج وكالة الفضاء ناسا لوضع إنسان على سطح القمر لا يزال يقدم دورسا في تحفيز العلاقات العامة الخاصة التي تحقق النتائج، الواقع أن برنامج أبولو، الذي تعادل تكلفته التي يتحملها دافعو الضرائب نحو 283 مليار دولار اليوم، عمل على تحفيز الإبداع في قطاعات متعددة- من صناعة الطيران والمواد المغذية إلى الإلكترونيات والبرمجيات- في حين عمل أيضا على تعزيز قدرات القطاع العام الذاتية.

دفعت وكالة ناسا مئات الملايين من الدولارات لشركات مثل جنرال موتورز، وبرات آند ويتني (المعروفة آنذاك باسم United Aircraft)، وهاني ويل لاختراع الوقود الجديد، وأنظمة الدفع، والتثبيت داخل صواريخها الأسطورية Saturn V، ثم ساعدت هذه التكنولوجيات الممولة من القطاع العام في خلق العديد من المنتجات الفرعية التي لا نزال نستخدمها حتى يومنا هذا، بما في ذلك حليب الأطفال (من طعام رواد الفضاء المجفف) والمكانس الكهربائية اللاسلكية (من الآلات التي جرفت سطح القمر لجمع المعلومات)، كما شكلت الدوائر المتكاملة المستخدمة في الملاحة حجر الأساس للحوسبة الحديثة.

من الأهمية بمكان أن نعلم أن وكالة ناسا حرصت على حصول الحكومة على صفقة جيدة، فعرضت على الشركات عقودا “ثابتة السعر” لإرغامها على العمل بكفاءة، في حين قدمت أيضا الحوافز لتحسين الجودة على نحو مستمر، وساعدت فقرات “عدم جواز جني أرباح زائدة” في العقود في ضمان أن يظل سباق الفضاء مدفوعا بالفضول العلمي لا الجشع أو المضاربة.

على القدر ذاته من الأهمية، تجنبت ناسا الاعتماد المفرط على القطاع الخاص، ولو استعانت الوكالة بمصادر خارجية لتنفيذ دورها، فإنها كانت ستتعرض لما أسماه رئيس المشتريات آنذاك “brochuremanship”: عندما يُـملي الطرف المنتمي إلى القطاع الخاص ما هو “الأفضل”، ولأن ناسا عملت على تطوير خبرة داخلية، فإنها كانت تعرف قدر ما يعرفه المقاولون عن التكنولوجيا، وبالتالي كانت مجهزة للتفاوض بشأن عقودها وإدارتها.

من خلال تعزيز قدرات القطاع العام وتحديد غرض واضح للتحالفات بين القطاعين العام والخاص، تستطيع إدارة بايدن تحقيق النمو والمساعدة في التصدي لبعض أعظم التحديات في عصرنا، من التفاوت بين الناس وضعف الأنظمة الصحية إلى الاحتباس الحراري الكوكبي.

الواقع أن هذه المشاكل أشد تعقيدا وأكثر أبعادا من إرسال إنسان إلى القمر، لكن الضرورة واحدة: الإدارة الاستراتيجية الفَـعّـالة للفضاء حيث يلتقي التمويل العام مع الصناعة الخاصة، فعلى سبيل المثال، في حين تصور شركات الأدوية الضخمة القطاع العام على أنه مجرد مستهلك للأدوية، فإن اكتشاف هذه الأدوية يبدأ عادة بالبحوث الممولة من القطاع العام.

لنتأمل هنا مبلغ 40 مليار دولار تستثمره حكومة الولايات المتحدة سنويا في المعاهد الوطنية للصحة، فقد دعمت المعاهد الوطنية للصحة (إلى جانب وزارة شؤون المحاربين القدامى في الولايات المتحدة) عقار سوفوسبوفير لعلاج التهاب الكبد الوبائي من النوع C لأكثر من عشر سنوات من أموال دافعي الضرائب، ولكن عندما استحوذت شركة التكنولوجيا الحيوية الخاصة “Gilead Sciences” على الدواء ثمنت دورة مدتها 12 أسبوعا من الأقراص بنحو 84 ألف دولار، وعلى نحو مماثل تلقى واحد من أولى الأدوية المضادة للفيروسات، Remdesivir، لعلاج كوفيد19 ما يقدر بنحو 70.5 مليون دولار من التمويل العام خلال الفترة من 2002 إلى 2020، والآن تتقاضى الشركة 3120 دولارا مقابل دورة علاج مدتها خمسة أيام.

يشهد هذا على شراكة طفيلية لا تكافلية، ويتعين على المعاهد الوطنية للصحة أن تبذل المزيد من الجهد لضمان التسعير العادل والقدرة على الوصول إلى الإبداعات والابتكارات التي تمولها، بدلا من إضعاف قوتها ذاتيا، كما فعلت في عام 1995 عندما ألغت شرط التسعير العادل من اتفاقيات البحث والتطوير التعاونية التي أبرمتها، ومن الأهمية بمكان الحرص على وضع الشروط في الحسبان في التعامل مع إبداعات وابتكارات الوكالات الموجهة نحو المهام مثل “داربا” و”باردا”، والوكالة المقترحة حديثا “هيئة مشاريع الأبحاث المتقدمة-الصحة ARPA-H”، التي سيقتصر تركيزها على الأولويات الصحية.

في حالة الجائحة، ضخت حكومات عديدة 8.5 مليارات دولار لتطوير اللقاحات التي يجري تصنيعها وبيعها حاليا بواسطة شركات أميركية مثل جونسون آند جونسون، وفايزر، ونوفافاكس، ومودرنا، والسؤال الآن هو ما إذا كان تقاسم المعرفة والدراية باللقاحات مع أكبر عدد ممكن من البلدان لإنهاء الجائحة ليحدث حقا، فهل تنضم المعاهدة الوطنية للصحة إلى مجمع تكنولوجي طوعي تنشئه منظمة الصحة العالمية لهذا الغرض على وجه التحديد؟

في الاستعداد لحقبة ما بعد الجائحة، يعني وعد بايدن “بإعادة البناء بشكل أفضل” أكثر من مجرد عودة إلى الحالة الطبيعية، لكن إعادة تشكيل الاقتصاد للأفضل لا يتطلب تغييرا في طريقة التفكير فقط، بل يستلزم أيضا إنشاء عقد اجتماعي جديد يقدر أهمية خلق القيمة قبل استخراج الأرباح؛ وإضفاء الطابع الاجتماعي على المخاطر وأيضا المكافآت؛ والاستثمار في المصلحة العامة، لا في شركات أو قطاعات بعينها فقط.

في حين فَـرَضَ قانون المساعدة والإغاثة والأمن الاقتصادي لمكافحة فيروس كورونا (CARES) بعض الشروط على الشركات التي تتلقى مساعدات حكومية للحفاظ على الوظائف، فإن خطة الإنقاذ الأميركية التي تبلغ قيمتها 1.9 تريليون دولار، وخطة الوظائف الأميركية المقترحة بقيمة 2 تريليون دولار، يجب أن تذهبا إلى أبعد من ذلك، ويجب أن تضمنا أن يكون استثمار القطاع العام مصحوبا بتحول في العلاقة بين الدولة والقطاع الخاص.

هنا، يمكننا استخلاص الدروس من أوروبا. ففي فرنسا حرص الرئيس إيمانويل ماكرون على أن تكون أموال التعافي المقدمة إلى شركات الطيران وصناعة السيارات مشروطة بالتزامات بخفض انبعاثاتها الكربونية، وفي النمسا والدنمارك، كان لزاما على الشركات المتلقية لأموال التعافي أن تتعهد بعدم استخدام الملاذات الضريبية.

تتمثل مهمة إدارة بايدن بتوفير القيادة للمهام التي ستشكل هيئة العقود المقبلة، بدءا بمكافحة تغير المناخ، وفي عام 1962، قال الرئيس الأميركي جون ف. كينيدي إن الولايات المتحدة “ستختار الذهاب إلى القمر هذا العقد والقيام بأشياء أخرى، ليس لأنها سهلة، بل لأنها شديدة الصعوبة”، واليوم، لم يعد توافر النوع ذاته من القيادة الحكيمة اختيارا، بل ضرورة قصوى.

نحن في احتياج إلى عملية تحفيز للإبداع والاستثمار في مختلف قطاعات الاقتصاد تتجه من أعلى إلى أسفل، وتقدم لنا أمثلة عصر أبولو من القيادة الحكومية، وعقود المصلحة العامة الجريئة، ودينامية القطاع الخاص نموذجا قيما، وما لم نستخدم هذا النموذج، فلن تكون عملية إعادة البناء بشكل أفضل أكثر من مجرد شعار.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button