الدّعاة الشباب أكثر عمقاً* د. آمال موسى
النشرة الدولية –
هناك ثلاث أفكار أوليّة نود التلميح إليها بمناسبة شهر رمضان؛ الفكرة الأولى نُدرجها في قالب سؤال حقيقي لا استنكاري ولا ماكر. سؤالنا: لماذا نجح دعاة الدين الكبار منهم والشباب في توظيف وسائل التواصل الاجتماعي وتكنولوجيا الاتصال في حين أن المفكرين الحداثيين ودعاة العقلانية والحرية وحقوق الإنسان والمبدعين الشعراء والروائيين لم ينتبهوا إلا قليلاً لأهمية وسائل التواصل الاجتماعي وتكنولوجيا الاتصال في نشر أفكارهم التقدمية وطروحاتهم الحديثة وإبداعاتهم؟
بلفت النظر عن المواقف حول ظاهرة الدعاة إلى التدين هناك نقطة تُحسب لصالح هؤلاء الدعاة، وهي المعاصرة التقنية والمواكبة التكنولوجية وتوظيف ذلك بما يُسهم في شهرتهم وتبليغ رسائلهم إلى جماهير تعد بالملايين. يمكن القول متداركين بعض الشيء إن دعاة الدين ونجوم موسيقى الراب يشتركون في اغتنام تكنولوجيا وسائل الاتصال الحديثة.
طبعاً اللافت في سؤالنا وجود مفارقة غريبة تستحق التفكير فيها على نطاق واسع كالندوات مثلاً. المفارقة المقصودة تتعلق بأن الذي يروج لمضامين حداثية في بلداننا العربية والإسلامية، وهم النخب العلمانيون والحداثيون، لا يعيرون أهمية لتكنولوجيا الاتصال الحديثة التي هي من نتاج المضامين التي يروجون لها. وفي المقابل نجد أن دعاة الهوية والمدافعين عن مفاهيمهم للدين يقبلون على تكنولوجيا الاتصال إقبال العارف الذكي فإذا بهم يهاجمون قيم الحداثة جهراً وسراً ويوظفون منتجاتها التقنية في مجال التواصل مع مريديهم وجماهيرهم.
باختصار إننا نسجل شرخاً في التعامل بين الاثنين؛ طرف يدافع عن فكر الحداثة وآخر ينتقدها، ولكنه في الوقت نفسه يستفيد من أهم مظاهر الحداثة اليوم المتمثلة في تكنولوجيا وسائل الاتصال والتواصل الاجتماعي.
الفكرة الثانية التي تهمنا تتصل بدعاة الدين ونجاحهم في فرض مساحة مهمة لهم في الفضاء السمعي البصري حيث نجد دعاة نجوماً في القنوات الدينية وفي وسائل التواصل الاجتماعي ولهم قنوات على «يوتيوب» ومواقع على الإنترنت وهم ينشطون أيضاً على «إنستغرام» و«فيسبوك» و«تويتر» ويقومون بوظيفة التنشئة الدينية ويلبّون حاجة الناس لفهم الدين وتطبيقه، إضافة إلى جذب أكبر عدد ممكن إلى الذين يوجهون لهم الدعوة إلى الدين الإسلامي.
ويكفي بمتابعة بعض البرامج التي يقدمونها أن نلحظ العدد الهائل لمتابعيهم والتعليقات الإيجابية، مما يكشف عمّا يلقاه هؤلاء الدعاة من تفاعلية وتواصلية لافتة جعلت منهم نجوماً في الحقل الديني وناشطين مميزين أصحاب جاذبية في الفضاء السمعي البصري العربي. لذلك فإننا يمكن أن نستنتج بحذر طبعاً أن ما سماه الراحل محمد آركون «الصحوة الدينية» وما نراه من مظاهر تدين بدأت تهيمن على الفضاء العمومي في شتى البلدان العربية وحتى الأوروبية حيث تقيم جاليات عربية وإسلامية كبيرة العدد، إنما قد أسهم فيها بشكل خاص الدعاة الذين أصبحوا من الفاعلين الأساسيين في الإعلام السمعي البصري وتحديداً الخاص منه وأيضاً في وسائل التواصل الاجتماعي.
أما بخصوص المضامين المقترحة من لدن الدعاة أصحاب البرامج العالية المتابعة والمشاهدة فهي متنوعة، وعلى مستوى الشكل تتميز باستيعاب واضح لشروط العمل السمعي البصري، ونقصد: قِصَر مدة الحلقة من البرنامج، واختيار عناوين جذابة، ومتابعة الآنيّة الدينية مثل تخصيص برامج خاصة لشهر رمضان واعتماد إضاءة جذابة وأسلوب حواري في طرح المواضيع.
غير أن الملاحَظ –وهذه فكرتنا الثالثة- هو أن الشباب من جيل الدعاة يمتلكون عناصر تفوُّق مقارنةً بالدعاة القدامى. ذلك أن الذين لديهم تجربة طويلة في مجال الدعوة تبلغ نصف قرن أحياناً يركزون على الجوانب الفقهية وسير الصحابة وبالنسبة إليهم الدين منهج شمولي للحياة، وتتميز مداخلاتهم بالصرامة الدينية. كما أن برامج هؤلاء الدعاة وخطبهم في أثناء صلاء الجمعة تقريباً تكرر مضامينها لأنها تتعامل مع الواقع الراهن للمسلمين بمسافة، مخيّرة استحضار الماضي.
في المقابل نجد الدعاة الشباب يركزون على القيم والمعاني الربانية الدينية، أي إنهم يغوصون في لُبّ الدين من أخلاق وقيم ويمارسون نوعاً من التفكر والتعمق ويجعلون الإنسان هو المحور، والدين يعالج حالات الإنسان من قلق وخوف وندم وفشل وحزن وتعثر وخيبات وابتلاءات. دعاة شباب يمتلكون حضوراً وأداءً هادئاً متمكناً يقوم على المنطق والتعقل في الدين ويخاطبون القلوب من بوابة الترغيب واليسر مع استبعاد الترهيب. لِنَقُل إن البعد الروحي عند الشباب من الدعاة الجدد أكثر قوة، إضافةً إلى حضور المستقبل والطاقة والدفع إلى الطموح والنجاح وعدم اليأس مع محاولة بناء الإنسان المسلم من الداخل وليس بالاقتصار على جانب العبادات وما هو محرم.
ملاحظة أخيرة نختم بها هذه الأفكار الأوليّة الموجزة تتعلق بالهيمنة المطلقة للدعاة من مصر وبشكل أقل من سوريا، في حين المغرب العربي لم يدخل سباق الدعاة فلا نجد داعية من تونس أو الجزائر أو المغرب يتهافت عليه المتابعون. طبعاً تأخُّر ظهور الإعلام الخاص في بلدان المغرب العربي يفسر لنا هذا الغياب ولكن يظل التفسير ناقصاً ولا يشفي غليل الفهم.