تشاد تعود إلى إدريس ديبي* عبد الرحمن شلقم

النشرة الدولية –

عاد المشير إدريس ديبي إتنو إلى تشاد لتعود إليه كما كان يعود إليها من دون توقف على ظهر عربة صحراوية يعلوها السلاح متقدماً قواته التي يغطيها غبار الصحراء تندفع نحو عدو لتفتك به قوة الحكم، أو كي تردّ قوة مسلحة معادية تقاتله من أجل افتكاك غنيمة السلطة. يوم الثلاثاء الماضي، عادت تشاد إلى رمزها العسكري الذي قادها لعقود ثلاثة، ولكن هذه المرة كان يحمل على كتفيه رتبة خاصة وعالية هي المشير أو المارشال، وجسده غير ذاك الذي كان يغبّر في السرايا وهو يحمل رتبة الشاب الشجاع العنيد المقاتل الذي يقول عنه التشاديون: «يداوس»، أي يهاجم أعداءه بقوة بلا حسابات أو تردد. إدريس ديبي الذي تلقى علومه العسكرية كملّاح طيران واصل دراسته العسكرية في فرنسا ليعود بعدها إلى بلاده ويتدرج في الرتب والمناصب العسكرية. بعد استقلال البلاد عن فرنسا سنة 1960 تولى الرئاسة تومبلباي، وهو مسيحي من الجنوب، ومنذ اليوم الأول أحس أهل الشمال من المسلمين، وهم أغلبية السكان، بالغبن، وبدأت حركات التمرد على حكمه. لم يكن تومبلباي ليوبولد سيدار سنغور المسيحي الكاثوليكي الذي قاد السنغال والأغلبية الساحقة لأهلها من المسلمين السُنة المالكيين. كان سنغور مثقفاً وحكيماً تبحّر في دراسة الدين الإسلامي ووطّد علاقته برجال الصوفية خصوصاً الطريقة التيجانية، بل نصّب نفسه خادماً لها وشكّل حوله نخبة من الشباب المسلمين سهر على توسيع ثقافتهم ووعيهم السياسي واتّخذ منهم طليعة تنويرية أسهمت في ترسيخ الوحدة الوطنية بعيداً عن النزاع القبلي والطائفي. تومبلباي لم يكن سنغور السنغالي أو جوليوس نيريري التنزاني، ولم تكن تشاد السنغال أو تنزانيا.

تشاد أرض يسكنها زمان من إبداع أهلها الذين أعطوا للصحراء لغة خاصة جداً في سكونهم وحركتهم. المغالبة هي قانون الوجود في رحاب هي هبة التراب الذي يمتد بلا حدود. في وسط وجنوب البلاد الواسعة، حيث يترعرع النبات الأخضر بأحجامه المختلفة، تنبت لغات وسلوك مختلف عمّا يلده التراب والجبال في الشرق والشمال. كي تكون رجلاً كاملاً فوق التراب لا بد أن تكون مقاتلاً من دون توقف. القبيلة حلقة مفتوحة بحدود متحركة ببشرها ومواشيها يرافقها السلاح المتحفز. بعد الاستقلال صارت السلطة من القوة المضافة إلى كينونة القبيلة خصوصاً القبائل الكبيرة. تشاد كانت وبقيت ساحة متحركة للصراع المسلح والفاعل الأساسي فيه القبيلة والتدخل الأجنبي القريب والبعيد.

إدريس ديبي ينتمي إلى قبيلة الزغاوة الكبيرة التي لها امتداد في إقليم دارفور السوداني. عمل ذراعاً عسكرية لحسين هبري، وهو من قبيلة القرعان، وخاض معه معاركه ضد القوات الليبية. لكن ديبي لم يقتنع بأن يبقى مجرد ذراع، إذ أراد أن يكون رأساً فتمرّد على حسين هبري بدعم من ليبيا واستفاد من فرع قبيلته في السودان وانتزع منه السلطة سنة 1990. انتهى هبري في السجن بالسنغال بعد محاكمته بتهمة الإبادة الجماعية التي قيل إنه قتل فيها أربعين ألف مواطن تشادي. إدريس ديبي صنعته القبيلة والبندقية ثم السلطة. أدرك أن عليه أن يحتفظ بمهنة المقاتل بغضّ النظر عن الرتبة والمنصب، فالرصاصة هي القلم الذي يكتب المصير، وأن القوى الخارجية ذات الرؤوس الثلاثة هي الأفاعي التي عليه أن يرقص فوق أفواهها، كما قال الرئيس اليمني الراحل علي عبد الله صالح وهي: ليبيا والسودان وفرنسا. لقد نجح في صياغة علاقة خاصة مع العقيد معمر القذافي وحافظ على أكثر من شعرة مع السودان المترجرج، أما فرنسا فكانت البعيد الأَولى بالقربى.

بعد نشر فرنسا قواتها في منطقة الساحل والصحراء في عملية «برخان»، كان إدريس ديبي بقواته العسكرية الأكثر تأهيلاً في المنطقة المشتعلة، هو آمر العمليات الجريء، بل أرسل قواته إلى مناطق أخرى مشتعلة في أفريقيا. بعد أول انتخابات رئاسية في البلاد والتي فاز فيها في ظل دستور جديد، تعهّد بالسير في طريق التداول السلمي على السلطة، لكنه جعل السلطة ملكية قبلية خالصة، وبعد اكتشاف النفط تعهد بأن يسخّر دخله للتنمية العادلة في كل أنحاء البلاد تحت إشراف الأمم المتحدة، لكنه تراجع عن ذلك وحوّل ثروة النفط إلى التسليح وأضافها إلى مكونات القوة القبلية والزبونية.

شنت قوات المعارضة هجومات متواصلة على مملكته ووصل بعضها إلى أسوار القصر الرئاسي، لكنّ الرئيس المقاتل كان دائماً هو الذي يتقدم المقاتلين ولم يتأخر البعيد الأقرب، فرنسا، عن مد أجنحة طائراتها المقاتلة لضرب المتمردين العابرين للصحراء.

الهجوم الذي رسم نهاية إدريس العنيد قَدِم هذه المرة من القريب القديم، من جنوب ليبيا. قوات «الوفاق من أجل التغيير» التشادية التي كانت متجمعة في منطقة الجفرة بالجنوب الليبي التي يقودها محمد المهدي، نجحت في الاندفاع عبر منطقة تبستي ووصلت إلى مدينة ماو التي تبعد قرابة ثلاثمائة كيلومتر عن العاصمة إنجامينا. قالت الأنباء إن المقاتل المارشال إدريس ديبي تقدم قواته لدفع الهجوم وهناك التقى بالمصير الذي هرب من أمامه مرات، في حين رشحت أنباء من داخل إنجامينا تقول إن المصير كتبته نيران صديقة للرئيس.

السرعة التي أُعلن بها تشكيل المجلس العسكري طرحت أكثر من سؤال، ووضع ابن ديبي، محمد، على رأس ذلك المجلس مع وجود جنرالات به أكبر سناً ورتبة منه، وتعطيل الدستور الذي ينص على تولي رئيس مجلس النواب مهام الرئيس في حالة غيابه أو موته، هل لكون رئيس مجلس النواب الحالي في البلاد من أصول عربية والعرق والقبيلة هما الورقة والرصاصة اللتان تصنعان سلم السلطة؟ غياب إدريس ديبي سيعيد تشكيل خريطة القوة في تشاد. لقد عادت البلاد إلى المصنع القديم، حيث تتفاعل كل المكونات الاجتماعية والعسكرية والجغرافية والدولية لتنتج مصيراً لا يغيب عنه الدم. رحل إدريس ديبي مقتولاً ولكن تشاد لا تغيب عنه ولا يغيب عنها.

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button