تدوينة: عن لبنان وبدايات بطعم النهايات* مزنة المصري

النشرة الدولية –

 

تقول صديقتي، لنكتب عن المستقبل. عن حديث الرحيل والبقاء. لا أعرف ما التعبير الأمثل لأعنون كتابتي* تحته.  كلمة «المستقبل» أصبحت ملكًا خاصًا ولا يمكنني التفلت من ارتباطها السياسي. وفي اللحظة التي أعيشها، لا مكان للخيال. لا قدرة لي على التأمل. لا رؤى وردية قادرة على تشكيل مسارات بديلة كما تدعي تمارين منظمات المجتمع المدني. الأعوام القادمة أعوام انتظار، وتمسك بحبال نجاة وهمية.

السفر

أقيم في الآن وهنا. كل تخطيط واقعي للمستقبل هو تخطيط للهجرة. كل قراءة لواقع البلاد، تتوقع تسارع انحدارنا إلى الفقر، وضيق مساحات الحياة. هل هناك غير الهروب الذي اعتدناه في شرق المتوسط؟ دومًا تتفتح أمام بعضنا دروب العالم، فنرحل ونرسل العملة من المهجر، ونسمح لبعض ممَن نحب بالبقاء، نواطير مفاتيح هذي البلاد، فيستمر معهم سارقو البلاد وطغاتها.

دومًا السفر، قرين هذا الشاطئ وناسه. تخبرني صديقة عن نقاش في أحد أفلام مارون بغدادي، في السبعينيات، بضعة أعوام بعد بدء الحرب الأهلية، عن تجاذب يشبه ما نعيشه اليوم بين البقاء والرحيل. يحكي أمين معلوف أيضًا، من فوق صخرة طانيوس* عن «قطعة ضيقة من البحر الممتدة نحو الأفق كالدرب»، درب امتد سابقًا منذ مئة عام أمام طانيوس أيضًا، وتسأل سلوى القطريب عما وراء البحر، وهل لدربه نهاية؟

أجد في السفر اليوم انعكاس تراكم الخيبات. مَن يسافر لا يبحث عما وراء البحر، بل يهرب من هذا الشاطئ وما عليه، حتى ولو قدّم حياته وحياة أولاده ليبتلعها البحر قربانًا لحلم الرحيل. بحرنا، المتوسط، مقبرة جماعية للحالمين والهاربين.

 ما مستقبل الشعور بالهزيمة؟

اتصل بصديقة بعد انفجار بيروت بشهر حين أعلم أنها ستهاجر. في سبيل المواساة، أقول: «كانت سنة صعبة»، فتقوَّم عبارتي: «بل 45 سنة صعبة» هي سنوات عُمرها كله. «كل عمرنا راح هيك، ضِيعان»، تقول صديقة أُخرى. اسمع ثقل الانهزام أيضًا على لسان البائع الستيني في محل الأدوات المنزلية: «بقينا نقول، بكرا بيتحسّن الوضع، خلِص العمر وما تغيّر شي». وصرّاف شارع الحمرا، مُشجِع نادي الأنصار، يعلن عن تشاؤمه مع بداية عام جديد، أرد: «ما بتعرف، يمكن يربح النجمة* بطولة الدوري»، فأضحكه وأزعجه في آن واحد.

الانتظار

وهناك الانتظار. شيء يشبه سبات الدب القطبي في الشتاء. نبقى، كبذرة تدفن نفسها في عتم ورطوبة الأرض، ونقول: قد يأتي الربيع. أكرر، كما كل النساء الحكيمات في بلادي، «مين طلع من داره، قل مقداره». أتمسك بحبال نجاة وهمية.. كرائحة البحر على الكورنيش (مع إغفال متعمد لرائحة المجارير والسمك النافق الذي تأرجحه الموجات)، كسهرة مع أصدقاء فيها من الموسيقى أكثر مما فيها من كلام السياسة وأسى الأزمة الاقتصادية. امتنع عن قراءة الجرائد يوميًا، وعن الأخبار، وأتجاهل حديث المؤامرات والخلاف أو الاتفاق بين دول الخليج وتطبيعها. أخفض نفقاتي، لكن في اجتماع لجنة البناية أطالب بزيادة ما ندفعه للناطور (حارس البناية)، وانتظر. اختار ألا أفعل شيئًا، إلا أن أبقى هنا، متفرجة شاهدة. أتمنى لو كنت في آخر العمر، ولا قلق لديّ حول تعليم أطفالي، ومستقبلهم وتوفير ثياب جديدة لهم كلما كبروا.

ننتظر. نزرع الحبق والنعناع وشجرة برتقال على الشرفة، وبعض الخضار في أرض صغيرة (لو كان لنا من قرى هذي البلاد ضيعة). نسمي ذلك «أمن غذائي». في القرى أجدهم يحضرون المونة، لوبيا وذرة ورب البندورة في مراطبين (برطمانات) زجاج. بعضهم يتعلّم إعداد الكِشك والزعتر والشنكليش من الجدات. ليسوا وحيدين، هم عشرات الآلاف، يجتمعون مجموعات على فيسبوك، يتشاورون في الزراعة ويتباهون بإنتاجهم. مهند، أو «السيد افوكادو»، لديه آلاف المتابعين على تويتر، نجمنا الجديد على وسائل التواصل الاجتماعي يخبرنا عن القرّاص، وزراعة الليف والحسبة (سوق خضار الجملة). أجمل ما أنتجته الأزمة الاقتصادية أننا نتعلم عن «وشوشة البندورة».

ما مستقبل الانتظار؟ لست أدري، ربما يغرينا البحر. ربما نبقى قليلًا بعد، دون أن تسحبنا إحدى الموجات.. فتوشوشنا البندورة سرها قبل أن نعصرها في صحن كبة.

القرار

أعرف هذا التجاذب من طفولتي أيضًا. أذكر عصر يوم من أيام 1983، تركنا أهلنا صغارًا ليتمشوا على كورنيش بيروت. في جيوبهم ذاك النهار كانت فيزا هجرة إلى كندا، لكنهم حينها، رغم كل أهوال حصار بيروت وتدميرها من قِبل إسرائيل، ورغم استمرار حرب لبنان الأهلية، قرروا عدم المغادرة. بل، قرروا ألا يهاجروا، فرحلنا إلى الأردن لحين. هناك مازلنا بقرب فلسطين. هناك ما زلنا نتكلم اللغة العربية.

سنوات بعدها، في العقد الأول بعد انتهاء الحرب الأهلية، بدأ بعض ممَن هاجروا بالعودة. ماذا لو غادرنا أيضًا؟ لتكلمت اللغة الإنجليزية بطلاقة، بدون لكنة عربية، ولخرج حرف الـ R بسلاسة دون أن يدور لساني سبع دورات في فمي. أصادقهم وأعمل معهم، ومع مَن هم أصغر مني سنًا، وأدرك كم خسرت خلال سنوات اللا تعليم المدرسية، وانتهاء العام الدراسي بغتة بداية الصيف حين تبدأ المعارك. أرى ماضينا في سنوات العمر الضائعة التي يعيشها الأطفال السوريين خارج المدارس، وتعليم أطفال العالم إذ تبقيهم الجائحة خارج المدارس. «جيل ضائع» هذا ما نسميهم، ونحن مَن كبرنا في بيروت السبعينيات والثمانينيات، نحن اليوم ذاك الجيل الضائع في عقده الخامس.

لكني كنت ممتنة إني بقيت. أراقب وصديقتي التي بقيت أيضًا ألم الهوية الذي يحمله مَن غادر، وتقول ربما من حسن حظنا أننا لم نغادر، إذ ندرك أننا في سلام. يتعبني بحثي في القواميس وعصيان اللغة الإنجليزية إذ أحاول إتمام مقال أكاديمي باللغة الإنجليزية، لكني أعرف أن الوجه الذي أراه في المرأة يشبهني، دون أن تشوه أُلفتي معه عنصرية وطن آخر.

قرار آخر

يقول لي صديق، إنه يشعر بغربته كلما لفظ أحدهم، في هولندا حيث يقيم، اسمه بشكل خاطئ. ويشكو لي أخي من كم النكات التي تأتيه باللغة العربية ولا يمكنه مشاركتها مع أصدقائه الألمان. الغربة هي في سلب قدرتك على المزاح. أحضِّر أطفالي للرحيل إلى بريطانيا. بانتظار الفيزا، يسألني الأصدقاء عن عملي، عن السكن، عن مدرسة الأطفال، عن إمكانية أن أكوّن صداقات.. لكن همي الأكبر هو اللغة. ماذا لو نسي أبنائي العربية؟ كيف لي أن أكون أمًا بغير لغة؟ هذا مستحيل، أعرف ذلك. على فراش الموت، لا يريد محمود درويش استمرار الحياة إلا ليعود إلى لغته. أنا مثله، لا أخشى كأم في غربتي إلا فقد اللغة. كيف أغنج وأدلّل باللغة الإنجليزية؟ كيف سأتمكن من تعليم أبنائي المبتدأ والخبر، ودخول «كان» على الجملة الأسمية، وبحور الشعر وتفعيلاته، والكبير لم يتعلم بعد الفرق بين الاسم والفعل؟

أقول سبب الرحيل هو خطيئتي الأولى حين تزوجت أجنبيًا. كيف لي أن أقنعه بجدوى الانتظار، حين لا يعطيه لبنان حق العمل أو أفق للبقاء أو الجنسية هو وأبنائنا؟ لو كنّا قد نجحنا، على الأقل في إقرار حق الأم بإعطاء جنسيتها لأبنائها؟ كيف أقنعه وسلاحي الأقوى -وصلته الأوثق مع هذه البلاد- هما المكدوس والمنقوشة؟ «زوجك بريطاني؟!! شو بعدك عمتعملي بهالبلد؟ّ» هي ردة الفعل الأولى لأغلب مَن أقابلهم لأول مرة. أقاوم رغبة بالاستفاضة عن صعوبة السفر، عن استحالة الخلاص الفردي لمَن يحمل البلاد داخله، عن استحالة الخلاص الفردي لأي كان، حتى لو سافرنا مع كل أحبتنا وكتبنا وموسيقانا وشتلات المردكوش والزعتر. لكني أدرك أن مَن يسمعني غالبًا يظن أن في كلامي تكبر مَن لديه رفاهية الاختيار.

الفيزا

افتح جواز سفري عند خروجي من مكتب التأشيرات. لا حزن أشعر به ولا فرح. أبعث رسالة لأختي وصديقتي، تأتيني ردودهما، وجوه صفراء صغيرة تفيض دمعًا. كلام أختي عبر الهاتف مليء بالتناقض: «مبروك حبيبتي، بس ضِيعانك تروحي» ثم تقول بين دموعها: «ما تزعلي، اعتبريها بداية جديدة». على حائط المسرح الكبير، كتب أحدهم، في لحظة أمل: «شو حلوة البدايات»، وأنا أحب البدايات كما أحب السفر. أحب البدايات، بل خطيئتي حُبي للبدايات، وتشهد عليّ عشرات مشاريع عمل وحب وتغيير بدأتها، ولم تكتمل. لكن هذه البداية مُرّة.

بعض البدايات لها طعم النهايات.

اليوم، جلّ ما انتظره، وأنا أعد حقائبي هو أن تزهر شجرة البرتقال على الشرفة لأخذ معي بعضًا من رحيقها.

 

*هذه التدوينة هي جزء من تعاون بحثيّ- توثيقيّ نظّمته مجموعة العمل حول الإثنوغرافيا والمعرفة في المنطقة العربية – التابعة للمجلس العربي للعلوم الاجتماعية والمموّلة من قبل مؤسسة Mellon – بين نوفمبر 2020 ومارس 2021 وشارك فيه 12 مدوّن ومدوّنة مقيمين في لبنان.

**رواية أمين معلوف، للكاتب اللبناني/ الفرنسي، كُتبت بالفرنسية، وحصلت على جائزة الجونكور الفرنسية في 1993، وتُرجمت إلى العربية في عدة طبعات.

*** ناد ينافس نادي «الأنصار» في الدوري كرة القدم، ويشكلان معًا «ديربي بيروت» في البطولة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى