أسوأ درس في التفاؤل* آمال موسى

النشرة الدولية –

أجادت منظمة الصحة العالمية عندما وصفت المأساة الحاصلة في الهند بكونها نتاج إفراط في التفاؤل، تمظهر في التجمعات والاحتفالات الدينية والسياسية. وهو ما يعني أن «كورونا» والتفاؤل لا يلتقيان، وأن لا مجال للتفاؤل والفيروس ما زال موجوداً وما زال يصنع الفاجعات ويعيد إنتاج نفسه على نحو صادم وغادر. فالسلوك العقلاني إزاء الفيروس القاتل الذي استأنف نشاطه في حصد الأرواح، هو الحذر ومواصلة تبني نفس إجراءات الحماية.

في بداية الجائحة كانت إيطاليا البلد الأكثر وجعاً حيث قتل «كورونا» عائلات إيطالية بأكملها وأوجع الإيطاليين وأحزنهم وما زال. بعد أشهر من تعميم الوضع وخفوت وتيرة الإصابات وانطلاق حملات التلقيح ظن الكثيرون أن الخطر قد زال وأن كل الهاجس في الوقت الرّاهن هو إحراز تقدم في روزنامات التلقيح بشكل يجعلها تبلغ ثلاثة أرباع سكان العالم من البالغين.

إن فكرة الخطر ما زالت قائمة وبقوة، خفت تأثيرها ووقعها على النّاس ولم تسترجع قوتها – هذه الفكرة – إلا مع تهاطل الصور والفيديوهات المحزنة الوافدة من الهند، حيث يسقط يومياً الآلاف من الموتى، ورأى العالم جبروت هذه الجائحة وكيف ضاقت الأرض في الهند بدفن ناسها وصار حرق الجثث ضرورة وإكراهاً وليس طقساً من الطقوس والمعتقدات. رأى العالم وجوهاً حزينة تغمرها الدموع لأنها ارتكبت خطيئة التفاؤل من دون أن تتحصن بالتلقيح، حيث إن الأرقام تشير إلى أن التلقيح في الهند لم يتعدَّ عُشر السكان البالغين.

إذن نحن أمام أسوأ درس في التفاؤل، وما زالت تداعيات هذا التفاؤل مستمرة، حيث تمكن الفيروس المتحول في طفرة عالية الخطورة من الهند، وفقدت الدولة السيطرة رغم أن الهند، كما تشير التقارير، كانت قبل أقل من ثلاثة أشهر من الدول المتحمسة لإنتاج اللقاح. طبعاً لا تفوتنا الإشارة إلى أن تلقيح عُشر السكان البالغين في بلد تعداد سكانه 1.4 مليار، يعد نسبة مهمة، ولكن من جهة أخرى فإن عدم بلوغ السبعين في المائة يطيح بكل الجهود المبذولة، حيث الفيروس يُحكم قبضته كما يحصل منذ أيام في الهند بشكل يثير الرعب ويقدم لكل الدول درساً قاسياً في ضرورة تجنب التفاؤل، حيث المعركة مع هذا الفيروس مفتوحة والمجهول فيها أكثر من المعلوم.

وفي الحقيقة يعرف التونسيون منذ أيام ما يشبه درس التفاؤل السيئ ولكن بشكل غير مأساوي حتى هذه اللحظة. فتونس التي كانت من الدول التي التزمت الحذر وأقرت الحجْر الصحي رغم تكلفته الاقتصادية الباهظة العام الماضي في نفس هذا التوقيت، حصل فيها التراخي فكانت النكسة ومحو ما تم تحقيقه من نجاح لم يُسند بالمثابرة وعدم التفاؤل. ولعلنا نتذكر جيداً كيف كانت تونس حديث كثير من البلدان في نجاحها في تطويق الأزمة وتسجيل «صفر حالة» في وقت كانت فيه دول عدة تسجل مئات الإصابات وأكثر. ولكن سقط التونسيون أيضاً في فخ التفاؤل وعادت تجمعات الأفراح واللامبالاة والاختلاط من دون تباعد، وعقد بعض السياسيين المسيرات وأشهرها مسيرة حركة «النهضة» في شوارع العاصمة… فكانت النتيجة أنه أول من أمس تم تسجيل 119 حالة وفاة بسبب «كورونا»، وهو أعلى عدد منذ بداية الجائحة. وفي إطار التفاؤل أيضاً وشعور التونسيين بأن الفيروس انتهى أمره فإن عمليات سبر الآراء أظهرت عدم تحمس التونسي للتلقيح وعدم ثقته بجدواه، الأمر الذي جعل تسجيل المواطنين للقيام بالتلقيح في البداية ضعيفاً، ثم في الأيام الأخيرة ومع تأكد علامات الهجمة الشرسة للفيروس حصل ما يشبه الذعر وبدأ التهافت على التسجيل وبدأ التذمر من تأخر جلب الدولة للتلقيح. ذلك أن أسطورة «تونس صفر إصابة» خلقت نوعاً من الكسل إزاء ملف التلقيح فتأخرت تونس في القيام بالإجراءات ووصلت كمية من التبرعات الدولية محدودة حتى الآن.

والواضح أن تونس أضاعت الأشهر الأخيرة عندما لم تضع مسألة التلقيح أولوية قصوى، وكل البلدان التي أضاعت فترة تراجع عدد الإصابات والوفيات بسبب «كوفيد» تسببت في تعقيد وضع شعوبها الصحي حالياً حيث تتزامن الموجة الثالثة مع بدايات عملية التلقيح، خصوصاً أن التلقيح لا يعطي مفعوله إلا بعد الجرعة الثانية، أي بعد قرابة الشهرين من تناول الجرعة الأولى من التلقيح، مما يعني أن الذين قاموا بالتلقيح حالياً ليسوا في مأمن من الفيروس بدليل وفاة أطباء ومعلمين، وواحد من المعلمين توفي يوم تلقيه التلقيح.

بيت القصيد: التفاؤل قبل تلقيح سكان العالم ضد «كورونا» خطأ بليغ تكلفته الوجع والألم والحزن والموت. ويبدو لي أن أمام ضعف الوعي في مجتمعات كثيرة من المهم التركيز على المثال الهندي، فهو أقوى حملة توعية لمن اعتقد أن خطر الجائحة زال. وإذا كان النّاس متفاوتين في وعيهم وفي عقلانيتهم فليس مسموحاً للدول ولأجهزتها بأي تهاون في تحمل مسؤولية حماية أرواح شعوبها، لذلك فإن التنافس بين الدول حالياً هو حول من الأقدر على مواجهة هذه الجائحة، وليس صحيحاً أن كل المواجهة بالمال. فنبذ التفاؤل القاتل ونشر ثقافة الحذر والتباعد والاشتغال بجدية على ملف التلقيح، أضحت واجبات أي دولة اليوم، في لحظة باتت فيها كيفية إدارة أزمة الجائحة من صميم الأمن القومي.

 

نقلاً عن “الشرق الأوسط”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى