رشيد الكرمليّ
النشرة الدولية –
الرأي – د.أيّوب أبو ديّة
صدرت مؤخراً رواية بعنوان «الكرمليّ» للكاتب والروائي والشاعر د.سميح مسعود، وهي رواية تعدّ في مجملها استمرارية لأعمال الكاتب الروائية وثلاثيته عن «حيفا» و”برقة» وباقي المدن والقرى الفلسطينية الأخرى، إذ يُعنى فيها الكاتب بإعادة إحياء التراث الوطني الفلسطيني، وشرح الأحداث المتسارعة خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، وذكر أسماء الشخصيات الوطنية التي برزت في النصف الأول من القرن العشرين في فلسطين وبلاد الشام.
ولا بد بدايةً من الإشارة إلى قلم مسعود العذب وأسلوبه البليغ الجميل، كما جاء في قوله عن مرحلة تعليم رشيد الكرملي: «كان يمسك قلمه ويحركه يمنة ويسرة، يجره على اتساع صفحات بيضاء ويحولها إلى أعشاش لحروفه المتشابكة». وكذلك في قوله: «ويتابع بنظره أشعة الشمس التي تتلألأ فوقها، ويخشى دوماً أن تحملها النوارس على أجنحتها إلى جزر بعيدة، فيلاحقها وينهرها ويبعدها إلى أمكنة خلف الآفاق». وأيضاً في حديثه في الخريف عن شجرة البيلسان في داره: «وقد أخذت أوراقها بالسقوط شيئاً فشيئاً من دمدمات الخريف التي تسري في عروق الشجر، تلتهم أوراقها بتوحّش وتفرشها على الأرض اللزجة، تقتحمها قوافل النمل». وأيضاً، في وصفه حرب ثوار فلسطين مع القوات البريطانية بقوله: «ويُلحِقون بها الخسائر، فكانت رجوم الصخور تحميهم، وحتى العصافير كانت تدلّهم بهز أجنحتها على مكان عدوهم، فيغيرون عليهم فتعتري رجفات الموت جنوده».
تمتاز الرواية الصادرة عن «الآن ناشرون وموزعون»، بتوثيق مرحلة شيخوخة الدولة العثمانية، واندياح الاضطهاد الذي عانى منه الشعب العربي، ومحاولة تأسيس الدولة العربية الواحدة بعد انطلاقة الثورة العربية الكبرى في الحجاز، مرورا بمرحلة وعد بلفور واتفاقية سايكس بيكو، وما تمخض عنها من زيادة في زخم هجرة اليهود إلى فلسطين، وما تلاها من ثورات فلسطينية وحروب، انتهاء بالمرحلة التي انتهت بسقوط حيفا بيد العصابات الصهيونية.
وتمتاز الرواية كذلك بكثرة شخوصها الوطنية وروعة وصفهم من خلال الحوارات والنقاشات والانفعالات، وإظهار قوة ارتباطهم بقراهم وثقافتهم، حيث لا يألو الكاتب جهدا في ربط كل شخص بقريته ومدينته وتراثه العروبي، والتي تشكل في مجموعها مشروعاً عروبياً وحدوياً، ما فتئ الكاتب يدعو إليه في كل جنبات كتبه ورواياته وأشعاره، وعلى امتداد إرثه الثقافي الطويل في الشأنين الاقتصادي والوطني. وقد لفت إلى أهمية الخط الحديدي الحجازي في ربط عرى بلاد الشام والحجاز بعضها ببعض، ويبدي رأيه في أنه كان من الخطأ توقيف عمل هذا المشروع بعد نجاح المرحلة الأولى من الثورة.
يبدأ الكاتب في روايته «الكرمليّ» انطلاقاً من طفولة رشيد الكرملي بوصفه أحد أبناء القائد ظاهر العمر الزيداني الذي حوّل حيفا من قرية للصيادين إلى مدينة مسوّرة تحتوي على مجتمع مدني مستقر ومزدهر. ثم يتدرج في الحديث عن تجارته ومواقفه الوطنية وصداقته الحميمة مع الكاتب نجيب نصار صاحب جريدة «الكرمل»، ومع الشيخ مناور الزعبي الرمثاوي، وغيرهما، ويستمر رشيد الكرملي في نضاله لغاية أن أصبح هو نفسه لاجئاً بعد النكبة.
ويمكن عدّ الكتاب، في أجزاء منه، إحياء لجريدة «الكرمل» لصاحبها نجيب نصار، لبناني الأصل الذي كان مناضلاً ضد التتريك، وفيما بعد ثار ضد الإنجليز والاستعمار البريطاني والهجرة اليهودية إلى فلسطين. لقد عملت جريدة «الكرمل» لمدة ثلاثة عقود مستمرة وانتهت بمقالة ودّعت فيه القرّاء، فانتهى المآل بنجيب نصار متقاعداً في أرضه في بيسان بعد أن أصابه الإحباط، وتوفي قبيل احتلال حيفا بقليل.
كذلك تُعدّ الرواية إحياء لارتباط حيفا بالمدن الأردنية، فالكاتب لا يكفّ عن ذكر اسم درَج إربد، ودرَج عجلون في حيفا، كما وسم حيفا بأنها «مدينة كل العرب» في أكثر من مناسبة، ولم ينسَ ارتباط أهل حيفا بالمدن السورية والأردنية، وخاصة درعا والرمثا، حيث الشيخ مناور الزعبي الذي كان بمثابة الأخ والصديق والنصير لرشيد الكرملي وعائلته الممتدة في حيفا. كما لا يغفل عن ذكر استشهاد القائد الأردني محمّد الحنيطي الذي كان قائد حيفا، ولا يغفل عن إحياء الإخاء الإسلامي المسيحي بذكر مطران العرب، المطران جريجوريس حجّار ومشاركته أهل المدينة بأفراحهم وأتراحهم، فضلاً عن مواقفه الوطنية من الاستعمار. كذلك عني بإحياء التراث الشعبي أينما استطاع في جنبات الكتاب، كوصفه رقصة الدبكة الجليلية لفرقة أفرادها التي ضمت أعضاء من قرى ترشيحا والجش وفسوطه، وغيرها.
والمشروع العقلاني الإنساني في النظر إلى العالم يعمّ الكتاب ويزين ثناياه، فيذكر المؤلف ابنَ رشد بوصفه تاريخاً مشرقاً للعقلانية في الفكر العربي الإسلامي، ويعيد ذكراه باسم أبي الوليد في موقع آخر. ومقابل ذلك التاريخ المشرق، يُبرز الجانب المظلم في حضارتنا التراثية، كحديثه عن نهاية ابن المقفع غير الإنسانية عندما حُرق حياً في التنور بأمر من الخليفة العباسي.
وهناك إحياء لأحداث الثورة العربية الكبرى، وتفصيلات لوجود الملك فيصل في دمشق، وإجلائه عنها، وسفره إلى حيفا رافضاَ التنقل بالمركبات العسكرية الفرنسية الأربع التي خُصصت له بعد الاحتلال الفرنسي لدمشق، وإيثاره السفر بعربات تجرها الخيول على عرض الفرنسيين. ولا يتورع مسعود عن الهجوم على لورنس العرب، حيث يصفه بالجاسوس طوراً وبالخبيث تارة أخرى. كذلك يلقي الضوء على مظالم الإنجليز حول العالم، وسرقتهم لآثار مصر، ودعمهم للهجرة اليهودية إلى فلسطين، وتضييق الخناق على الفلسطينيين واضطهادهم.
وهناك جانب مهم في الرواية يتعلق بإعادة إحياء اسم قرية المؤلف «برقة» وعائلة سيف أخواله، وخاصة محمّد أبو عودة سيف صاحب قوافل الجِمال التي يمتلكها والتي استُخدمت فيما بعد لنقل السلاح والعتاد للثورة الفلسطينية. وأيضاً، يذكر بوضوح المناضل أبو كمال سيف من قرية «ذنابة» الواقعة بجانب برقة، والذي أصبح من قادة الثورة الفلسطينية فيما بعد، وكذلك شخصيات وطنية من حيفا كتوفيق أبو غيدا وغيره.
كما لا يخلو الكتاب من الحديث عن أسباب هزيمة حرب 1948 وجذور الهزيمة الممتدة إلى وعد بلفور، واتفاقية سايكس بيكو، وأثر الإقطاعيين العرب في لبنان وسوريا من حيث تملك أراضي الفلسطينيين في الشمال الفلسطيني وبيعها لليهود، وكذلك دور إبراهيم سرسق، وغيره، في أعمال مماثلة.
ويبحث الكاتب في أنّ أحد أسباب الهزيمة كان الصراعَ بين الفلسطينيين على السلطة. ففيما كان اليهود ينهبون فلسطين كان مفتي القدس يتصارع على الزعامة مع خصمه اللدود راغب، وأنه في ذلك الأثناء سقطت حيفا وبقية المدن الفلسطينية. وينتهي الكتاب بواقعة طرد الكثيرين من أهل حيفا من قِبل قوات الهاجانا، التي انطلقت عملياتها من جبل الكرمل، وعمدت إلى تسفيرهم بالقوارب إلى الدول العربية المجاورة حيث باتوا لاجئين.