شعاعُ الشمس ومرآتي
النشرة الدولية –
نقلاً عن موقع “خمس نجوم” – ساره العريضي –
جالسة على شرفة المنزل أرتشف قهوة الصباح، ملطّخة ببقعٍ من الفراغ، كعجوزٍ يائسة، وأنا ما زلت في غضون الشباب. يداي باردتان، وعيْناي كئيبتانِ كحال كانون، ووجهي شاحب كورقةٍ في مهب الريح . الشيء الوحيد الذي يؤكِّد أنَّني على قيد الحياة
هو عروقي البارزة وقلبي النابض. عندما كانت أمي تحدثني عن نفسي صغيرةً، كنت أتفاجأ وأتحسّر، أيُعقل أن تتصارع أمواج الطفولة والأمل وحب الحياة من جهة، وأمواج الكآبة والقنوط والجهل من جهٍةٍ أخرى؟ فأغرق في بحر التساؤلات، لأرى ذاتي على شاطئ الواقع من جديد.
جالسة غير آبهة بزقزقة العصافير التي لطالما عشقتها منذ أن أصبحت أذناي تصغيان، أنظر إلى النّاس يسيرون في الشّارع حالهم كحال الروبوتات، أجْسادهم منهكة بروتينها اليومي، وعقولهم محكوم عليها بالفكر الشَّاق مدى الحياة. جعلتُ أفكّر
بأحوالهم التي لا تختلف عن حالي، كلنا متشابهون في دروب الحياة . أبعدتُ نظري عن الشّارع حيث رميتُ تلك الأفكار والمخيِّلات البالية، فوقعَ نظري على الفناء الخلفي لبيتنا، حيث الأشّجار تعانق جذوعها الأزهار، والفراشات تتنقل بملل، والطيور تواسيها بحسرة، كل شيء يوحي بالرّتابة والملل . فجأةً، شعرتُ بأشعة شمس نيسان تدغدغُ جسدي، وحرارتها جعلتني أشعر بطاقة غريبة، وأحاسيس فريدة غمرتني كأمّ حنون، إنه شعور لطيف أشبه بالحلم؛ فخيوط الشَّمس هذه أوقدت في ذاتي نار التغيير، وأشرقت في نفسي حب المعرفة. لم أعد أشعر بكياني
وذاتي، حاولتُ أن أقاوم هذه الأفكار، لكنّ ما حدث لم يكن لي فيه يد، أظنه القدر . لطالما كنت متأكِّدة أنَّ التغيير ما هو إلا إعصار يقلب الكيان رأسًا على عقبٍ. حينئذ، أيقنتُ أن رحلتي بدأت وما عليَّ الآن
سوى أن أبحث عمّن يساعدني ويكون مرشدي. . منذ تلك اللحّظة، إستوطنت السكينة نفسي، وعادت الابتسامةُ إلى روحي قبل ثغري. فشعرتُ أنَّني عدتُ تلك الطفلة الشَّقيَّة التي لطالما كانت تحب المعرفة والاطّلاع. فمددتُ يدي المرتجفة وحملتُ فنجانَ القهوة أرتشفها لأخفِّف من وطأة
الحدث، فتذوّقت فيها طعم الحياة، ثمَّ نظرتُ إلى الشَّارع فرأيتُ الأطفال الفرحين، والأمَّ الحنون، والشّاب العاشق، والصبيَّة الطموحة الحالمة. ثمَّ أدرتُ نظري صوب الفناء الخلفي، فلاحت لي الفراشات تلعبُ وسط الزهور الرّاقصة، ودغدغت أذنيّ زقزقة العصافير التي تتنافس لتطرب الأرض ومَن عليها. شعرتُ بالدَّهشة والشَّفقة على نفسي في آنٍ واحدٍ، فجلَّ ما كنت أراه ما كان إلاّ ترُجمان لذاتي وإنعكاس لنفسي، إذ كنت أرى العالم والأشياء وكل ما حولي بمنظاري الباهت. ..دخلتُ المنزل، واستلقيتُ على الأريكة، فتجرَّدت من المكان والزمان، وتهتُ في رحاب الأفكار وبحور التساؤلات.
كنتُ أعلم أنَّها رحلة طويلة، رحلة البحث عن الذّات، رحلة معرفة سر الحياة، ومغزى الوجود. لملمتُ نفسي، أخذتُ نفسًا عميقًا، لبستُ ثوب الطمأنينة وتزيَّنت بدرر الإيمان وحاولت أن أنام. كانت ليلةً طويلةً منحوتة بالسكونِ والهدوء، رفضتْ فيها عيناي أن تستسلما للنوم خوفًا من أن يكون كل ما كان حُلماً. ما إن انبزغت أشعةُ الشمس حتى انطلقت إلى الجبل للقاءِ الرَّجل الحكيم، وطلب المساعدة… خلال طريقي كنتُ مثل الفراشةِ أطير ، فما شعرتُ بثقل جسدي على الأرض، ولا بكلّ ما حولي. وصلتُ إلى أعلى الجبل، هناك حيث يقطن هو، فطرقتُ الباب كفتاةٍ ساذجة غير آبهة بعواقب الأمور. ولكن، ما إن فُتح باب الكوخ حتىَّ شعرت بذاتي مرة أخرى، شعرتُ بثقل جسدي على الأرض وشعرت برهبة الخوف والترددُّ. فاستقبلني بابتسامة، وكيف لي ألا أعود إلى ذاتي بعد رؤية هذا الكم من الصفاء ؟
وقال:” أهلاً بك ، تفضلي بالدخول” .وما إن دخلت، حتى أردف قائلاً “كيف أساعدك؟” حاولتُ أن أتأمَّل عينيهِ السّوداوين النيّرتين ، لكِّن الخجل كانت عائقًا. وما زاد من وقاره وحكمته سوى عباءته البنيَّة. لبرهةٍ عمَّ السّكوتُ، ولاشك أن السُّكوت في حرم الجمال جمال؟
” ما بكِ، تكلمي، هيا، أخبريني؟ ” تلعثمتُ وحاولتُ أن أتذكر ما جئت لأجله، لكنّ وقاره أعجز لساني عن الكلام، وجعلني أدور في حلقة مفرغة كثيرة الأسئلة
التي تبحث عن جواب. بعد قليل، أطلتْ الشَّمس من شباك الغرفة، وغمرتني كسابق عهدها وأعادتني إلى رشدي، أقفلتُ أصابعي على راحة كفي، واستجمعت قواي، ثمّ أخبرته بما حلَّ بي. . .
وعندما أنهيتُ الحديث عمّ الصمت، نظرتُ إليه فإذا به يبتسم مطمئنا إيّّاي، ثمّ أردف قائلاً :
“لا عليكِ، فالصّدق تجهره عيناك، وحبّ والمعرفة ينبض مع كلامِك.”
” أشعرُ بالضياع كيف لي أن أبدأ بالسَّيْر في طريق المعرفة؟”
نهض من مكانه وكأنَّه ملاكٌ طويل القامة بجسد نحيل، ذهب ناحية حقيبته وجاءني بكتاب ومرآة. . .
أعطاني إيّاهما وهمس : بهما ستجدين الأجوبة على سؤالك. . . الآن يمكنكِ الذهاب! ”
” كيف لمرآة وكتاب أن يكونا بداية رحلة المعرفة؟”
” عودي إلى المنزل، اليوم ليس لدي شيء لأقوله!”
حبسْتُ دموعي، وشعرتُ أنَّني خُذلتُ للمرَّة الثاَّنية، لم أكن أتوقع ذلك، ظننتُ أنَّه قد يكون المعلِمّ والمرشد. فدخلتُ عليه كالطفلةِ البريئةِ المليئةِ بالآمال والأحلام وغادرتُ المكان فاقدة الأمل ومهيضة الجناحين. وصلتُ إلى المنزل، فرميت المرآة والكتاب فوق المكتب ثمّ خلدت إلى النوم للهروب من الواقع كعادتي القديمة وسافرتُ إلى دنيا الأحلام. لكن، ما إن ظهرت الشمس مجددًا في الصباح الباكر حتى عدت إلى عزيمتي، وقلت لنفسي إنَّ هدفي هو المعرفة وسأسعى إليها مهما كان الثمن الذّي سأدفعه. توجهت إلى الرجل الحكيم ثانيةً، وأخذت ما أعطاني لأعيده إليه.
عندما وصلتُ، قال لي:
” كنتُ بانتظارك، وكنت متأكِّد من انك ستأتين!”
فقاطعتهُ، بصوت أشبه بالعتاب: “مرآتكَ وكتابكَ ما زاداني إلا ضياعا وحسرة.”
ضحكَ بصوت مرتفع، وردَّ :” من أراد طريق الحقّ يسلكها ببصيرته لا ببصره، ومن أراد طريق النّور يفكر بقلبه لا بعقله”.
ثمّ اكمل :” أعطيتكُ المرآة لسبب، فكلَّما نظرت فيها رأيت ذاتك اليس كذلك؟ إذًا اعلمي مقدار نفسك، فإياك والتكبُّر ثمَّ إياك والذلُّ، الوسطيَّة الطريق المثلى… قدِّسي نفسك واحترميها، واعلمي أنَّك أنتِ المسؤولة الوحيدة عن ذاتك، ونفسك، وسعادتك
والمسؤولة عن كل الخيارات في حياتك. بداية المعرفة تكمن في معرفة ذاتكِ؛ من عرف نفسه عرف ربَّه .”
أخذ نفساً عميقاً، وأردف قائلاً :” وأعطيتكُ الكتاب لأنَّه هو الرفيق في الوحدة والمرشد لك والمعلِمّ . كلّ كتابٍ تقرأينه يفتحُ لكِ آفاقا جديدة ويُبْعِدُ عنكِ شبح اليأس والرتابة والجهل. لهذا أعطيتك إيّاهما فهما بداية طريق المعرفة وسبيل الحقّ. ”
حينها غرقتْ عيناي بالدموع فكلامه دخل قلبي واستوطن به، فعلمَ ما شعرت به من دون البوح بحرف واحد .
ودعني قائلاً :” اذهبي، الآن يمكنك البدء برحلة المعرفة، اهلا وسهلا بك …”
ودعته على غير ما جِئته؛ُ فقد نزعَ عنيّ ثوبَ الكهولة وألبسني ثوب الفتاة الطامحة، وأطفأ في نفسي الظلمة الحالكة وأضاء سراج النّور. فبالمرآة عرفتُ ذاتي ومن خلال الكتبِ لمستُ السماء ،وسبحتُ في بحر المعرفة…
بعد فترةٍ وجيزةٍ ذهبتُ قاصدةً الجبل للقائه، ومعي حفنةٌ من الاسئلة التيّ عجزتُ عن فهمها. دخلتُ الكوخ وناديتهُ فرددّ الصدى كلماتي، بدأتُ ابحثُ عنه ولكن من دون جدوى. إنَّه غائب عن المكان، فشعرت بالوحدة والضياع! وإذا بشعاع الشَّمس يدخل خلسةً وتظهر أمامي مرآة كبيرة…
- ساره العريضي ساره العريضي طالبة جامعية، تتخصص بتربية الأطفال وتكتب قصصا قصيرة