“صانع الاخفاءات” لأنيس الرافعي الوجه الآخر للعبة أو الانسان بما هو فرد و متعدد في الآن ذاته

النشرة الدولية –

ريم قمري –

عليك أن تتعلم المشي على أطراف أصابعك و أنت تحاذر مع كل خطوة من الوقوع أو الانزلاق .

عليك أن تتعلم المشي على أطراف أصابعك و أنت تحاذر مع كل خطوة من الوقوع أو الانزلاق .

نعم ، يجب أن تفعل كل هذا، و ربما أكثر و أنت تقرأ للقاص المغربي أنيس الرافعي، لأنك تخوض تجربة مختلفة و أنت تمشي على أرض مجموعته القصصية   ” صانع الاخفاءات”  (دار بتانة، القاهرة ، 2021). أرض صلبة صحيح، لكنها قدت من بلور . ومن ثمة ،عليك أن تكون شديد الحيطة مع كل خطوة، و هو ما يجعل القراءة له مغامرة ممتعة جدا ، مغامرة تتطلب الكثير من التأني مع كل نص ، و تشحذ فكرك بل جميع حواسك، التى عليها أن تكون مثل جندي في حالة تأهب قصوى.

بدأت في قراءة المجموعة بداية رمضان، و في العادة أنا قارئة سريعة، خاصة إذا كنت اقرأ عملا استجاب لذائقتي منذ سطوره الأولي، أي أنني عادة أنهي الكتاب في يومين أو ثلاثة على أقصى تقدير، و ربما يخطر على بالكم أن إيقاع شهر رمضان هو ما جعلني أتأخر في إتمام المجموعة إلى الآن، و بعض من يعرفني عن قرب ربما يفكر أن الحالة النفسية التي تصيبني عادة بالحزن في رمضان هي سبب تأخري في إتمام المجموعة في يومين ؛ لكن في الواقع سأفاجئكم كما فاجئني أنيس و جعلني أكتشف أن القراءة على مهل ممتعة إلى أقصى حد.

مجموعة   “صانع الاخفاءات”   لا يمكن بأي حال من الأحوال قراءتها بسرعة ، إنها فخ جميل متى ما وقعت فيه ، سترفض أنت نفسك الخروج منه، إنها أشبه ” بمتلازمة ستوكهولم” ، حين تقع في حب خاطفك ، و ترفض مغادرة الأسر و تتمسك بالبقاء في ذلك السجن رفقة من تحب.

ثم إني اكتشفت طريقة رائعة في قراءة هذه المجموعة ، و أعتقد أني نجحت في تطبيقها ، وقد حفزت خيالي على العمل و التحليق عاليا، و حتى أشرحها أكثر يجب أن أتحدث أولا عن أجواء المجموعة و شخوصها و بناءها .

تدور أحداث المجموعة القصصية في مدينة الدار البيضاء، مسرح أحداث القصص مقاهي و شوارع كازا، حيث ينقلك الرواي عبر شوارع و أزقة المدينة مع كل شخصية جديدة تظهر على مسرح الأحداث.

في الواقع، أنا داخل المجموعة كنت أحس أني أتحرك فوق خشبة مسرح أو داخل فيلم سينمائي، حيث استطاع أنيس بإحكام أن ينقلك من مشهد الى آخر بسلاسة و اعتماد تصوير سينمائي بارع.

الرواي يتحكم في سرد الأحداث محافظا على طقوسه اليومية بدقة، يغير الجلوس في المقاهي، و يتابع يوميا أعماله الروتينية من كتابة يوميات و تقرير لوكالة خاصة يزمع تأسيسها لاختيار الأشخاص الذين سيؤمن لهم الاختفاء عن الوجود. اختفاء منظم و يخضع لمقاييس دقيقة في الإختيار، و من مكانه في المقهى، تظهر الشخصيات على مسرح الأحداث تباعا، و حتى حين غاب الرواي أو السارد استعان بمساعد يتم العمل بدلا عنه في مرحلة أولى، لتنتهي الى سارد ثالث استلم في الجزء الثالث من المجموعة مهمة سرد الأحداث ، و صار يتحدث عن السارد و مساعده و عن الشخوص أبطال القصص.

جميع شخوص المجموعة يجمع بينهم قاسم مشترك، غرابة الإسم أو بمعني آخر حملهم لألقاب في غياب أسمائهم الحقيقة، غياب معلومات صحيحة عن أصلهم و فصلهم و ماضيهم بشكل دقيق ، كل ما يرد عنهم هي في النهاية مجرد تخمينات، غرابة مظهرهم و تصرفاتهم مما يصبغ عليهم مسحة من الجنون،  احتلالهم للشارع فضاء للعيش و الحركة و النوم؛ أي أن أغلبهم مشردون بلا مأوي قار،  ثم  أخيرا اختفائهم جميعا في ظروف غامضة.

إذا هذا الأسلوب في الكتابة ، المختلف تماما ، بل و بشكل جذري عما تكتب به القصة القصيرة عادة، يضعك منذ البداية في مناخ مغاير للقراءة ، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تقرأ هذه المجموعة قراءة عادية و طبيعية ، إنها تتطلب تركيزا مضاعفا، و جهدا كبيرا، حتى تلج عواملها و تحدد موقع قدمك بل و تثبتها على أرض سردها.

منذ بدايات المجموعة تسألت لماذا لم يكتب أنيس الرافعي هذه المجموعة في شكل رواية، لماذا اختار كتابتها في شكل متتالية قصصية؟ هل هو وفاء منه و ارتباط وثيق بجنس القصة القصيرة، أم رغبة منه في مخاتلة الرواية و مغازلتها  و الاطلال عليها من شرفة القصة ؟ لا يسعني ان أجيب، لكني أجزم أن الرافعي ، كتب في هذه المجموعة القصصية و الرواية في آن واحد، و نجح في الإمساك بخيوط السرد ببراعة روائي، دون أن يغرق في التفاصيل السردية، بل حافظ على كثافة القصة و جملية سردها المكثف.

بناء الأحداث أيضا و نسق تداعيها كان شديد الإحكام، اختياره لشخوص الشارع التى كان يقدمها لنا من قصة الى أخرى لم يكن اعتباطيا بل أظنه اختيارا مدروس، إضافة الى الإطار المكاني و الزماني الذي كان يضع فيه شخوصه و ما يرافق ذلك من خلفية موسيقية يختارها مناسبة جدا للشخصية و لتطورها الدرامي .

لكل ما سبق لا يمكنك أن تقرأ هذه المتتالية القصصية بسرعة، إنها تقرأ بهدوء ، لأنك كلما تقدمت في القراءة اكتشفت  أولا أنك تحتاج بعد قراءة كل قصة الى فترة من الراحة ، للتفكير و التساؤل عن حقيقة هذا السارد المتحصن بمقاهي كازا يغيرها كما يغير الشخوص، التى يدونها في يومياته ويعدها زبائن محتملة لوكالة الاختفاء التى يزمع تأسيسها،  من هو ما هي دوافعه و لماذا يسعى لمساعدة الآخرين على الاختفاء، أسئلة تبقي معلقة و تزداد إلحاحا كلما تقدمنا أكثر في القراءة ، إنه نوع من القلق يخلقه الرافعي داخل القاريء ، ذلك القلق المحفز على الاستمرار في الايغال أكثر في هذا الكتاب، الذي يجمع داخله متناقضات الحياة و المدينة و المجتمع ، و أيضا و أساسا المتناقضات النفسية للذات البشرية، و هي برأيي العقدة الأساسية و الإشكالية الرئيسية التى قام عليها العمل برمته، البعد النفسي للإنسان، الأعطاب النفسية شديدة التعقيد و التى تدفعنا في النهاية للكتابة، أليست الكتابة في خاتمة المطاف شكلا من  التفريغ و العلاج النفسي، ألا نكتب في النهاية عقدنا على الورق في سعي منا لتجاوزها؟

قرأت المجموعة كما سبق و أشرت بطريقة خاصة ابتكرتها، كنت أقرأ يوميا قصة واحدة، ثم أغلق الكتاب ، و أسافر الى المغرب ، ساعدني على ذلك ربما أني كنت زرت الدار البيضاء مرتين سابقا، و أعرف تقريبا شكل المدينة، أبحث بخيالي عن المقهى الذي جلس بها السارد و أبدأ في إعادة تخيل القصة كما وردت في الكتاب.

لقد كان تمرينا رائع للخيال ، الذي يتكلس تحت وطأة العادي و اليومي، و فرصة أيضا للتفكير و تقصي حقيقة هذا السارد .

لقد أقحمني أنيس الرافعي في لعبته بإحكام، كلما اعتقدت أني أصبحت قريبة جدا من فك الأحجية ازددت ابتعادا ، لأكتشف أني منذ البداية كنت قريبة جدا من فك شفرات اللغز لكني لم أنتبه فقط لبعض التفاصيل.

يكتب الرافعي في منطقة أنا شخصيا أعشق الكتابة عنها، و هي منطقة البعد الإنساني أو بعبارة أخرى الجانب النفسي للإنسان، هذا العالم الداخلي الغامض و المتعدد الجوانب و الوجوه، عن الأنا أو الأنوات المتداخلة و المتشابكة داخل كل واحد فينا، الإنسان بما هو فرد و بما هو أيضا جمع  في داخله، الإنسان بما هو كائن منفصم ، تتعالى داخله أصوات متضاربة و متناقضة، الإنسان و أقنعته التى يلبسها أحيانا طواعية و غالبا كرها،  بوعي أحيانا و دون وعي غالبا ، عن الخيط الرفيع جدا الذي يفصل العقل عن الجنون و الخيال الإبداعي عن خيال الهوس ، و كأن السؤال الرئيسي المخفي داخل هذه المجموعة ، ألسنا كلنا شكيزوفران في النهاية و إن كان بدرجات؟

أخيرا ، يمكنني القول إن الكاتب اختار لغة مختلفة في كتابة هذه المجموعة، لغة تبدو أحيانا عتيقة و قديمة كأنها خارجة من مخطوط مغرق في القدم ، لكنه شحنها بروح العصر ، من خلال إقحام مشاهد تصف مدينة كازا اليوم و بالاعتماد أيضا على مقاطع من الموسيقي المغربية بمشاربها المختلفة العربية و الأمازيغية و التى شكلت العمود الفقري لأغلب القصص و جعلتنا نمشي في شوارع الدار البيضاء اليوم .

أنهيت الكتاب أمس؛ و منذ أنهيته و أنا أفكر في كتابة هذا النص، كتبته أكثر من مرة في ذهني ، و عدت و غيرته و عدلت فيه قبل أن أبدأ  أصلا كتابته فعليا على الحاسوب، و كدت أترك  الأمر برمته و أتوقف عن الكتابة بعد ما بدأتها هذا الصباح، أحسست أني عاجزة عن الكتابة عن صانع الاختفاءات، خشيت أن اختفي أنا أيضا داخل هذه المتاهة الكبيرة و أتحول إلى شخص من شخوصها أو ربما مثل السارد، أنساق وراء لعبته النفسية المعقدة و أضع على الورق مثله كل وجوهي الأخرى المخفية داخل أغوار نفسي العميقة.

القراءة لأنيس الرافعي متعة كبيرة و رحلة مشوقة داخل أسرار النفس البشربة و تجربة خيال خلاقة ، و الكتابة عنه شاقة جدا و متعبة لكنها استطاعت أن تكسر حزني الوجودي و تعيد النشاط لقلمي الذي أصابه الكسل الرمضاني.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى