معضلة المواءمة بين الأمن وصون الحريات تواجه فرنسا
النشرة الدولية –
“اندبندنت عربية” – سوسن مهنا –
لا ينفصل ما يحصل اليوم على الساحة الفرنسية الداخلية عن السياق العام لأحداث تجري منذ أواخر السبعينيات، أي منذ صدور “قانون الهجرة واللجوء” عام 1974 الذي نظم هجرة العمال الأجانب، هذا القانون حد من الهجرة لتحل محلها الهجرات العائلية كما السرية، بعدما كان التنقل شبه دائم بين دول المغرب العربي وفرنسا، وعدل هذا القانون في الأول من أغسطس (آب) 2018، من أجل ضبط هذه الحركة، وأثار القانون حينها جدلاً وانتقاداً ونقاشات كثيرة تحت قبة البرلمان الفرنسي نفسه، بعدما عبّر أعضاء من تكتل “الجمهورية إلى الأمام” عن انزعاجهم من القانون وأثره السلبي، بسبب الشروط القاسية على طلبات الهجرة واللجوء.
“الإسلام السياسي” في فرنسا
تتنامى مخاوف متزايدة من “الإسلام السياسي” في فرنسا، التي تضم أكبر جالية إسلامية في أوروبا، معظم هؤلاء أتوا من مستعمراتها السابقة في شمال أفريقيا، ويقدر عددهم الرسمي بنحو ستة ملايين مسلم، ولكن حسب معلومات “اندبندنت عربية”، فإن الرقم الحقيقي يتخطى ذلك بكثير ليصل إلى نسبة 18 في المئة من عدد سكان فرنسا، أي ما يقارب 11 إلى 12 مليون مسلم، إلى ذلك، فإن أبرز الهجمات الإرهابية الدامية التي شهدتها فرنسا خلال السنوات الأخيرة نفذها إسلاميون متطرفون، وكانت نتيجتها مئات الضحايا من المواطنين الفرنسيين، وحسب الاحصاءات للصحافة الفرنسية، نفذ نحو 18 هجوماً منذ عام 2015، أبرزها الهجوم على “شارلي إيبدو” في يناير (كانون الثاني) 2015، وهجمات باريس خلال نوفمبر (تشرين الثاني) من السنة ذاتها، وهجوم يوليو (تموز) 2016 في مدينة نيس، وهجوم ستراسبوغ في ديسمبر (كانون الأول) 2018، وآخرها طعن شرطية، أبريل (نيسان) الماضي على يد مهاجر تونسي، وكل هذه العمليات خلفت قتلى وجرحى وارتكبها أشخاص ينتسبون إلى تنظيمات متطرفة أو في فلكها.
وذهب ضحية تلك العمليات نحو 253 شخصاً بين قتيل وجريح، وتستعد وزارة الداخلية منذ عام 2020 لطرد 231 أجنبياً مدرجين على قائمة التطرف، بينهم 51 شخصاً خارج السجن، وقررت تعزيز الأمن في المنشآت الدراسية، فضلاً عن تشديد الخناق على جمعيات إسلامية لديها مصادر تمويل أجنبية. وتقول معلومات لـ “اندبندنت عربية”، إن اجراءات طرد المتطرفين الأجانب الخطيرين أصبحت تتم عبر تدخل وزير الداخلية جيرالد دارمانان شخصياً، بعدما أصبح من المتعذر إجراؤها بالطرق العادية، وآخرها التواصل مع وزير الداخلية الروسي فلاديمير كولوكولتسيف لترحيل المقاتل الشيشاني محمد غاداييف في التاسع من أبريل الماضي.
“التصدي للانعزالية الإسلامية”
هذا ما دفع بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في أكتوبر (تشرين الأول) من العام الماضي، بعد حادثة اعتداء بالساطور نفذها شاب باكستاني، أن يلقي خطاباً قال فيه، إن على فرنسا “التصدي إلى الانعزالية الإسلامية” الساعية إلى “إقامة نظام مواز” و”إنكار الجمهورية”، وقال إن “هناك في تلك النزعة الإسلامية الراديكالية عزماً معلناً على إحلال هيكلية منهجية للالتفاف على قوانين الجمهورية وإقامة نظام مواز يقوم على قيم مغايرة، وتطوير تنظيم مختلف للمجتمع”، معتبراً أن الإسلام “ديانة تعيش اليوم أزمة في كل مكان في العالم”، كلامه هذا لاقى انتقادات داخلية وخارجية واسعة.
وفي هذا السياق أقدم 20 جنرالاً (حتى الآن 23 جنرالاً) متقاعداً وحوالى 1000 عسكري ليل 21 أبريل، بالتوقيع على عريضة بعنوان “من أجل استعادة شرف حكامنا” نشرتها المجلة الأسبوعية اليمينية “Valeurs Actuelles”، عشرون جنرالاً وصلوا حتى كتابة هذا التقرير إلى 18 ألف ضابط وعسكري منهم من هم في الخدمة الفعلية، وربطت بعض المصادر بين توقيت توقيع العريضة بالذكرى الـ 60 لانقلاب 1961، الذي تم حينها في مراكز القيادة الفرنسية في الجزائر، وكان الجنرالات لمحوا إلى احتمال حدوث انقلاب عسكري، وأشاروا إلى أن زملاءهم في الخدمة على أهبة الاستعداد للتدخل متى دعت الحاجة لحماية “قيمنا الحضارية ومواطنينا”، مؤكدين في الوقت ذاته دعمهم أي توجه سياسي يضع نصب عينيه “حماية الأمة”، ومحذرين من وقوع حرب أهلية إذا ما استمر الوضع على حاله. وتحدثت العريضة عن “تفكك” فرنسا وتسليمها لـ “إسلاميي الضواحي” وسقوط قيم الجمهورية وتهميش الروح الوطنية، مع إشارة واضحة للعنف المستخدم خلال تظاهرات السترات الصفر.
فتح باب الانتخابات الرئاسية الفرنسية
وكانت بعض المعلومات قد تحدثت عن خلفية هذه العريضة رابطة بينها وبين الانتخابات الرئاسية التي ستجري في مايو (أيار) من عام 2022. هذا ما أكدته زعيمة اليمين المتطرف (المرشحة الرئاسية) مارين لوبان عبر مسارعتها إلى تبني مضمون العريضة، وكتبت في الوسيلة الإعلامية نفسها رسالة جوابية داعية العسكريين للانضمام إليها وخوض هذه المعركة إلى جانبها والعمل على “التخلص من ماكرون”، أيضاً لاقاها جان لوك ميلونشون (من أصول مغربية، ومرشح رئاسي) زعيم “فرنسا المتمردة”، الحركة المصنفة يسارية متطرفة، وهاجم العريضة وقدمها دليلاً على خطورة إبقاء فرنسا ومبادئها بعهدة ماكرون، يذكر أن المجلة الأسبوعية اليمينية “Valeurs Actuelles” كانت قد نشرت، عموداً للوزير الأسبق فيليب دي فيلييه، بعنوان “أدعو إلى التمرد”، وتقول بعض مصادر إن شقيقه بيار دي فيلييه، الرئيس الأسبق لهيئة أركان الجيوش الفرنسية، قد يترشح للانتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها العام المقبل.
انقلاب عسكري
وكانت ولاية الرئيس ماكرون قد بدأت بما يشبه “التمرد العسكري” إذ إن الجنرال بيار دو فيلييه، اعترض بعد وصول ماكرون على الميزانية المخصصة للجيش، وقام بتقديم استقالته، مشيراً إلى أنه “لم يعد قادراً على الحفاظ على استمرارية نموذج الجيش الذي يؤمن به لضمان حماية فرنسا والفرنسيين، اليوم وغداً، ولدعم طموحات بلادنا”.
وأثارت “العريضة” ردود فعل عديدة شاجبة، منها ما جاء على لسان وزيرة الدفاع فلورانس بارلي عبر “تويتر” معتبرة أن “من كتب ووقع هذه الرسالة هم مجموعة من جنرالات متقاعدين ولا يمثلون الجيش الفرنسي أبداً، وهم لا يمثلون إلا أنفسهم”، كما أكدت أن مبادئ الجيش الفرنسي تقوم على الحياد والولاء لفرنسا وحماية جميع الفرنسيين، وردت على الدعوة التي أطلقتها مارين لوبان للجنرالات الموقعين كي ينضموا لتيارها، قائلة، إن تصريحات لوبان تنم عن جهل بطبيعة الجيش الفرنسي، وإنها تسعى إلى تسييس المؤسسة العسكرية الفرنسية، وهذا التسييس يضعف أداء الجيش الفرنسي، ومستغربة لمن يريد أن يصبح قائداً للقوات المسلحة، في إشارة إلى لوبان المرشحة الرئاسية.
يذكر أنه يحق للجيش الفرنسي التصويت في الانتخابات، وفي الآونة الأخيرة أصبح الجيش أقرب إلى اليمين المتطرف بخاصة “الجندرمة”، أي شرطة الأرياف، الذين يعطون أصواتهم للوبان بنسبة 70 في المئة، وتقول مصادر قريبة من الجيش الفرنسي لـ”اندبندنت عربية”، إن المتقاعدين يعتبرون أن الحرب الأهلية ستقوم بعد خمس سنوات، والذين هم في الخدمة يؤكدون أنها آتية بعد 10 سنوات.
وكانت تمت إحالة 18 جنرالاً ما زالوا في الخدمة إلى المجلس العسكري الأعلى للتحقيق معهم حول العريضة التي قدموها.
هذه التطورات تضع المراقب أمام أسئلة منها، من، وما الذي أوصل فرنسا، بلد الحريات إلى هذه الحال من محاصرتها بالإسلام المتطرف؟ لماذا لم تأخذ السلطات الفرنسية حتى اليوم تدابير متشددة بحق الإسلاميين المهاجرين؟ ماذا لو نجحت محاولة الانقلاب؟ هل يتحول النظام الفرنسي إلى نظام عسكري؟ فرنسا الدولة العلمانية، لما تسمح بإقامة دور العبادة؟
وللإجابة على هذه الأسئلة، تحدثت “اندبندنت عربية” إلى رئيس أركان الشرطة القضائية سابقاً وعضو الحزب الاشتراكي الفرنسي، الكاتب والسياسي تيري ميغيل.
فرنسا أسهمت تاريخياً بترسيخ ثقافة الحوار
يقول ميغيل، “فرنسا ليست الدولة الوحيدة التي تواجه خطر الإرهاب الإسلامي. العديد من البلدان الأوروبية ودول المغرب العربي كانت ولا تزال تواجه التهديد نفسه، ويمكننا التفكير في المذابح التي ارتكبتها الجماعة الإسلامية المسلحة في الجزائر، أسهممت فرنسا تاريخياً، في ترسيخ ثقافة الحرية، لا سيما من حيث التعبير (يمكننا التحدث عن قضية رسوم شارلي إيبدو الكرتونية، مع ملاحظة أن نشأة هذه القضية بدأت في الدنمارك) وأسلوب حياة مخالف لما يقدمه هذا التطرف”.
ويتابع أن “ما يحصل لا يعد حصاراً، لأن التهديد يأتي من الداخل، ما يجعل من الصعب التخطيط للهجمات التي تزايدت أن يقوم بها الأشخاص الذين يتمتعون بالحد الأدنى من الخدمات اللوجستية، وإذا كان هناك من حصار، فهو بالأحرى دولياً ورقمياً، مع انتشار المواقع التي تمجد الإرهاب ويردد صداها الناس الذين يبحثون عن شرعنة عنف يتأتى من داخلهم”.
أزمة هوية
ويعتبر السياسي الفرنسي المخضرم، أن “فرنسا قد تكون تمر بأزمة هوية مع تصاعد النقاشات، التي أصبحت خالية من الفروق الدقيقة، بالتالي تسمح بالعنف اللفظي وخروج الكلام عن إطاره، من هنا جاءت عملية القتل الرهيبة للمدرس صموئيل باتي كرمز يعبر عن المأزق الحالي”، كما أثيرت أيضاً مسألة الذاكرة وبخاصة الذاكرة الاستعمارية، حتى لو لم تكن فرنسا استثناء في هذا المجال.
وبرأي ميغيل، فإن فرنسا لم تتخذ إجراءات صارمة ضد المهاجرين الإسلاميين المتطرفين، ذلك “لأن تاريخ الإرهاب يظهر أنه لا يمكن القضاء عليه فقط بالقوانين، بل بسياسات أكثر شمولاً من حيث الحقوق الاجتماعية أو مكافحة التطرف، ومن حيث إنشاء المؤسسات المتخصصة لمحاربة الشبكات الإرهابية، وعلى وجه الخصوص المؤسسات الاستخباراتية”، ويتابع أن “القانون الفرنسي يتطور باستمرار عبر تسليح نفسه بصلاحيات تمكنه من استباق الهجمات أو تفكيك الخلايا الإرهابية”، ويشدد على ضرورة “إيجاد توازن بين التدابير قصيرة وطويلة الأجل، مع تعزيز الأجهزة المختصة لهذه المعركة، سواء من حيث العديد والترسانة القانونية المتاحة، أو التذكير بالمبادئ الجمهورية. لكن هذا لا يمكن بناؤه إلا في إطار عالمي، فعملية اغتيال في أفغانستان يمكن أن تنذر بالفعل بهجوم في الولايات المتحدة”، لكن يستدرك قائلاً، “فرنسا وحدها لن تكون قادرة على محاربة آفة الإرهاب الإسلامي العالمية”.
الجيش الفرنسي متعلق بالقيم الجمهورية
وعن سؤال ماذا لو نجحت محاولة الانقلاب، فهل يتحول النظام الفرنسي إلى نظام عسكري؟
يضيف تيري ميغيل، “بعيدون جداً عن محاولة انقلاب، بالنظر إلى تاريخ فرنسا، فإن هذا الإغراء لا يعد الأول، يمكننا أن نتذكر حادثة الجنرال إرنست بولانجر، وفي التاريخ الحديث انقلاب الجزائر 1961 الذي نظمته “المجموعة الرباعية من الجنرالات المتقاعدين” كما سماه الجنرال شارل ديغول”، ويشير إلى أن “الجيش الفرنسي بأغلبيته متعلق بشكل خاص بالقيم الجمهورية وقوة القانون والعمل المؤسسي مثله مثل باقي المؤسسات”.
ويقول، “الفرنسيون يمرون حالياً بلحظة من الشك الديمقراطي، ويسعون إلى تحقيق التوازن بين الحاجة إلى الأمن واحترام الحريات الفردية. كما يذكرنا رجل اليسار البارز بيار مينديس فرانس، “يجب علينا أن نتعب شك الناس بقوة القناعات”، ويعرف الفرنسيون دائماً كيف يتّحدون عندما تتعرض القيم الإنسانية للتهديد”.
ويستشهد بما حدث في “الكابيتول” في واشنطن، ويقول، “أظهرت تلك الأحداث أي وقت هزيمة دونالد ترمب صعود الشعبويين والعنصريين (الاستعلائيين) في كل أنحاء العالم حتى في مهد الديمقراطية، وهذا خطر”، “أما في فرنسا، يوجد عديد من الضوابط والتوازنات والفكرة الديمقراطية راسخة في أذهان الجميع، وستأتي صحوة جمهورية لا محالة، ومع ذلك، لا ينبغي للمرء أن يستخف بالعريضة من العسكريين السابقين، ويجب أخذها على أن البلد يعاني من حال الشك”.
السماح ببناء دور العبادة لا يعني التغاضي عن مصادر التمويل
أما في ما خص بناء دور العبادة، فيقول، “قانون 1905 الذي هو أساس الفصل بين الكنيسة والدولة، هذا التوازن بين عدم تمويل دور العبادة من قبل الدولة، وفي الوقت نفسه ضمان حرية الفرد المطلقة في الإيمان من عدمه، هو أساس العلمانية الذي لا يتعارض مع الأديان، لكنه يسمح للجميع بالعيش وفقاً لقناعاتهم. لا يمكن لدولة علمانية أن تعارض بناء دور العبادة لأنها ستكون تروج للإلحاد الذي سيكون عقبة أمام المعتقدات. لقد أظهر التاريخ أن هدم الكنائس أو المعابد أو المساجد لا يؤدي إلا إلى إثارة الكراهية”، ويتابع أنه “لا ينبغي للدولة أن تتدخل في الحياة الخاصة لكل فرد، بل يجب أن تنظم العيش المشترك ووحدة الأمة”، “ولكن السماح ببناء دور العبادة لا يعني التغاضي عن التمويل والسؤال عن الإرادة السياسية لبعض الدول أو الجماعات الدينية المتطرفة بالتأثير على الحياة السياسية الفرنسية أو حتى لتفكيك الوحدة الوطنية”.