لبنان متروك لمواجهة “الارتطام الكبير” في نهاية مايو فاع معدل شراء الأسلحة الفردية وأدوية مهمة ستنحصر بيد 5 في المئة من الشعب* سوسن مهنا
النشرة الدولية –
يتأرجح لبنان ما بين “الطريق إلى جهنم” و”الارتطام الكبير”، ويتلمّس الشعب اللبناني طريقه داخل النفق المظلم المؤدي إلى الهاوية. الكارثة الاقتصادية التي تعصف بالبلد منذ ما قبل انتفاضة 17 أكتوبر (تشرين الأول) 2019، أسهب في شرحها خبراء دوليون ومحليون كثر، لكن آذان الحكام صمّاء لا تريد أن تتوصّل إلى أي حل إلا من خلال مصالحها الشخصية. هذه الأزمة المعيشية التي تترافق مع تقارير أمنية خطيرة تلقّاها مسؤولون، تتحدث عن مرحلة ما بعد عيد الفطر، والتحديات التي تواجه البلاد بعد التصريح الذي أطلقه حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، بأن احتياطيات المصرف المركزي بالعملات الأجنبية المخصصة لدعم بعض السلع تنتهي في أواخر مايو (أيار) الحالي، بالتالي لا قدرة على الاستمرار بسياسة الدعم المتّبعة. ورصدت تقارير أمنية ارتفاعاً في معدل شراء الأسلحة الفردية مع إقبال العائلات اللبنانية على اقتنائها، بعدما زادت في الفترة الماضية عمليات النهب والسرقة وأعمال الفوضى المخلّة بالأمن، التي يُرجَّح أن تتضاعف بعد رفع الدعم.
الفقر في لبنان
وكان البنك الدولي توقّع في دراسة أعدّها في أبريل (نيسان) الماضي، بالتعاون مع الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي، انكماش الناتج المحلي الإجمالي للاقتصاد اللبناني بنسبة 9.5 في المئة عام 2021، رابطاً هذا الانكماش بأسباب عدة، أهمها أزمة تفشي فيروس كورونا وغياب أي توافق حول معالجة الأوضاع الماكرو-اقتصادية. وأفادت البيانات المرفقة بالدراسة بأن نسبة الفقر في لبنان، خصوصاً بعد الحرب السورية، ارتفعت بشكل لافت، مشيرةً إلى أن أكثر من 50 في المئة من الشعب أصبح تحت خط الفقر، إذ إن العائلات التي تواجه صعوبةً في شراء الطعام والحصول على الخدمات الأساسية بلغت نسبتها 41 في المئة، أما تلك التي تعاني صعوبةً في الحصول على خدمات الصحة والاستشفاء فبلغت نسبتها 36 في المئة. إضافة إلى ذلك، سُجّل ارتفاع مستويات البطالة من 28 في المئة مع نهاية فبراير (شباط) 2020، أي قبل مرحلة تفشي “كوفيد-19″، إلى 40 في المئة في شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي.
وما زاد الطين بلّة، إعلان نقيب الصيادلة غسان الأمين أنه في غضون أسابيع ستصبح أدوية مهمة بيد 5 في المئة من الشعب اللبناني فقط وسيرتفع سعرها 10 أضعاف. وكانت “الدولية للمعلومات” وثّقت خلال مارس (آذار) الماضي، 19 حادثة عنف خلال شراء الحاجات الأساسية من المتاجر، في مختلف المناطق شمالاً وجنوباً وجبلاً وبقاعاً.
“فشِل السياسيون اللبنانيون في معالجة الأزمة”
وأصدر الاتحاد الأوروبي “ورقة خيارات سياسية” خلال اجتماعه الأخير في 19 أبريل الماضي، قال فيها إن “لبنان وشعبه في حاجة ماسة إلى حكومة مسؤولة وذات صدقية، ملتزمة صراحة إصلاحات محددة وقادرة على تنفيذها، خصوصاً التوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي (IMF)، بهدف معالجة أزمات البلاد. ولكن للأسف، فشل السياسيون اللبنانيون في إنجاز ذلك حتى الآن”. وحدد الاتحاد الأوروبي السياسات التي ربما يتّبعها، كمساهمات لمعالجة التحديات التي تواجه لبنان.
هذه الأزمات والمواقف تطرح علامات استفهام كثيرة وأسئلة حول ماذا بعد رفع الدعم وماذا ينتظر لبنان واللبنانيين؟ وما هي الإجراءات السريعة التي يمكن أن تجنّب لبنان لحظة الارتطام بالتالي سقوط الهيكل؟ وهل من حل سحري للأزمة؟ أيضاً ما هو هذا “الانهيار” الذي يتحدث عنه الجميع؟ أليس البلد في حالة انهيار الآن؟ وكيف تؤثر عمليات التهريب عبر الحدود في فقدان البضاعة المدعومة من الأسواق؟
أموال الدعم هي مدخرات اللبنانيين
وعلّق رئيس المعهد اللبناني لدراسات السوق باتريك مارديني على موضوع رفع الدعم، فقال إن “هناك تضخيماً كبيراً لخطورة رفع الدعم، فلن يكون له ذلك التأثير السلبي الذي يحاولون أن يصوّروه، لأن الأموال التي نستعملها الآن للدعم هي بالحقيقة أموال المودعين في المصارف، بالتالي طالما نحن نتّبع هذه السياسة، ذلك يعني أننا نتابع عملية السطو على أموال المودعين. وبهذا المعنى، فإن رفع الدعم هو حماية لما تبقّى من أموال الناس ومدخراتهم وجنى أعمارهم. ومن هذا المنطلق، لرفع الدعم منحى إيجابي من وجهة نظر المودع اللبناني لأنه يخفف خسارته. ذلك أن الحكومة اللبنانية كانت ألقت اللوم على المصرف المركزي بسبب خسارته لحوالى 50 مليار دولار، وقررت على أثر ذلك إجراء التدقيق الجنائي بالحسابات، وتطلب هذه الحكومة من المصرف المركزي أن يتابع خسارة أموال المودعين على سياسة الدعم. تلك السياسة السيئة لدعم الليرة التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه ما زالت مستمرة”.
البضاعة المدعومة مفقودة
وعن الإجراءات التي من الممكن أن تجنّب لبنان لحظة الارتطام، يقول مارديني إن “سياسة الدعم لم تكُن تعمل لتأخير هذه اللحظة، وإذا ما نظرنا من حولنا، لرأينا أن الأسعار مرتفعة أصلاً، وحتى السلة الغذائية المدعومة مفقودة من الأسواق. ويعني ذلك أن الحديث عن السلة الغذائية هو مجرد كلام. لكن الارتطام حدث وبشكل عنيف، لأنه لا يمكن الحصول على منتجات مدعومة من السوبرماركات والمحال التجارية حيث الناس تتصارع على قارورة زيت، ما يعني أن البضاعة المدعومة مفقودة، ومحاولة المسؤولين الربط بين الدعم وتأخير الارتطام هو مجرد وهم. إذاً لم تؤدِّ سياسة الدعم إلى نتيجة والدليل أن الـ 6 مليارات دولار التي تذهب إلى الدعم سنوياً، لم تحدّ من ارتفاع نسبة الفقر التي زادت من 20 في المئة إلى أكثر من 55 في المئة، لأنه وببساطة أموال الدعم لا تصل إلى الفقراء بل إلى فئات أخرى، تحديداً المهربين والمحتكرين والأغنياء والناس غير المستحقة. هذه السياسة التي باعونا إياها وأقنعونا بأنها ستمنع الناس من الوصول إلى خط الفقر، أثبتت فشلها”.
وقف الانهيار يكون عبر البدء بالإصلاحات
أما بشأن العوامل التي أدت إلى هذا “الانهيار”، فيرى الباحث في شؤون النقد، “أننا دخلنا في الانهيار منذ عام 2020. والعوامل التي أدت إليه لا تزال موجودة، وطالما أنها لم تتغيّر، فإن البلد سيكمل انهياره”. ويشرح مارديني أن “الناس ستنزل تحت خط الفقر، والشركات والمعامل والمصانع ستقفل أبوابها، والموظفين سيُسرّحون، وكل المرافق السياحية ستُقفل، وستنقطع المواد الغذائية وغيرها من البلد”.
وعن العوامل التي أوصلت البلد إلى هذا الدرك، يشير إلى عاملَين أساسيين، “الأول هو أن نفقات الدولة اللبنانية أكثر من إيراداتها، وهي تقترض نسبة الفرق، وهذا ما يحدد مشكلة الدين العام. وبعدما تخلّفت عن دفع مستحقاتها، لم يعُد أحد يقبل بإقراضها. إذاً لم يعُد بمقدور الدولة سدّ العجز إلا عن طريق طباعة الليرة، وكلما قام المصرف المركزي بطباعة أوراق نقدية، بناءً على طلب الحكومة، تصل هذه الليرة إلى الناس وتتحوّل إلى طلب على الدولار. ويؤدي ذلك إلى انهيار أكبر في سعر الصرف وارتفاع أكبر بسعر الدولار، وخسارة الثقة بالاقتصاد اللبناني وبالإيداعات المصرفية. إذاً طالما أن نفقات الدولة اللبنانية لا تزال مرتفعة وتموّل تلك النفقات عن طريق طباعة الليرة، ولم تقُم بأي عملية إصلاح تسهم في خفض النفقات، ولا أي إصلاح نقدي، الانهيار سيكبر ويزداد”.
وعن الحلول الآنية، أكد مارديني أن “على الحكومة اللبنانية البدء اليوم قبل الغد بعملية الإصلاح. لكن الحكومة الحالية لا تريد فعل أي شيء بحجة أنها حكومة تصريف أعمال، والحكومة الجديدة لا تتشكّل. والحكومة المقبلة لن يكون الحل بيدها، إذا لم تباشر بعملية الإصلاح والشعب لا يهتم بمَن يقوم بتلك العملية، سواء حكومة جديدة أو الحالية، أو حتى مجلس النواب، ولكن للأسف الكل يتهرب من تحمّل المسؤولية”.
الهامش الربحي الكبير يحفّز التهريب
أما عن كيف تؤثر عمليات التهريب عبر الحدود في فقدان البضاعة المدعومة من الأسواق، فيشير باتريك مارديني إلى “أن ذلك يحصل في كل البلدان التي اتّبعت سياسة دعم، وعانت من انقطاع البضاعة المدعومة، بالتالي هذا الأمر ليس محصوراً بلبنان، الذي لديه مشكلات على حدوده. وتؤثر الحدود غير المنضبطة في الوضع، لكن البضاعة تختفي من الأسواق لأسباب ثلاثة. أولاً بسبب التهريب، وثانياً لأنها تُخزّن وتُحتكر، إذ أن التاجر يخزّن تلك البضاعة وينزع عنها بطاقة التعريف مدعوم، ومن ثم يبيعها بأسعار مرتفعة وهذا يحصل كثيراً، وثالثاً ازدياد الطلب على المواد المدعومة من كل فئات المجتمع، أغنياء وفقراء. أيضاً صحيح أن معظم السلع المدعومة التي تدخل إلى لبنان تُهرّب مباشرة من المرفأ إذا كانت بضاعة مستوردة كالأدوية، فيُعاد تصديرها قبل وصولها إلى الداخل اللبناني، بحيث يبيعها التجار بأسعار مرتفعة محققين أرباحاً كبيرة، وهذا كله بالطبع من احتياطي مصرف لبنان. وهذا ينطبق على المحروقات، والسلة الغذائية التي تُهرّب عبر الحدود إلى سوريا، وكل البلدان المجاورة. مثلاً سعر صفيحة البنزين في لبنان 3 دولارات وفي سوريا يبلغ سعرها 12 دولاراً، بالتالي مَن يهرّب مادة البنزين يحقق أرباحاً تبلغ 400 في المئة، إذاً وجود هذا الهامش الربحي الكبير جداً يحفّز التهريب”.
“جونز هوبكنز” ينشئ فريقاً لمعالجة أزمة لبنان
وكان معهد “جونز هوبكنز” للاقتصاد التطبيقي أنشأ فريق عمل لمعالجة الأزمة اللبنانية، يضم نخبةً من ألمع الاقتصاديين وأكثرهم نفوذاً في العالم، أمثال البروفيسور ستيف هانكي المعروف عالمياً “بطبيب العملات ومهندس مجالس النقد” بحكم إشرافه على تأسيس معظم مجالس النقد في العقود الأربعة الأخيرة في كل من إستونيا وليتوانيا وبلغاريا والبوسنة والهرسك. وجاك دي لاروزيير، الاقتصادي الفرنسي الذي شغل منصب المدير العام لصندوق النقد الدولي وكان حاكم المصرف المركزي في فرنسا ورئيس البنك الأوروبي للإنشاء والتعمير، ويتمتع بعلاقة قوية جداً بالإدارة الفرنسية الحالية. وجون غرينوود، مصمم مجلس النقد في هونغ كونغ، وهو عضو في مجلس النقد (Currency Board) لهونغ كونغ، وهو مَن حلّ الأزمة المالية التي عصفت بها، وكبير الاقتصاديين في شركة “إنفيسكو” بلندن.
ويشرح رئيس المعهد اللبناني لدراسات السوق عن مبادرة ستيف هانكي وهل تستطيع أن تُحدث ثغرة وتعالج بعض الأزمات، فقال إن “أنشا ستيف هانكي، طبيب العملات الذي يعالج مشكلات انهيار سعر الصرف حول العالم، فريق عمل في معهد جونز هوبكنز والذي يضم أهم خبراء دوليين في موضوع معالجة الأزمات، ويتمتع هذا الفريق بخبرة كبيرة بمعالجات أزمات الدول، مثل لبنان، أكثر من أي فريق أو شخص آخر على الكرة الأرضية. وفكرة أنهم اجتمعوا كي يجدوا الحلول المناسبة للأزمة اللبنانية، فهذا يُعتبر أمراً مهماً لا بل عظيماً وعلينا أن نستفيد من خطوتهم هذه”. ويحاول هذا الفريق أن يحاور المجتمع الدولي، ويطرح بداية فكرة إنشاء مجلس نقد في لبنان لوقف انهيار سعر صرف الليرة وارتفاع الأسعار، وإعادة القليل من الاستقرار المالي إلى البلد. ونشر الفكرة في صحيفة “وول ستريت جورنال”.
وبدأ هذا الفريق بمشاورات مع المرجعيات الدولية، بدءًا من صندوق النقد الدولي وصولاً إلى كل المهتمين بالملف اللبناني كي يشرح لهم طبيعة الأزمة في البلد. كما يسخّر الفريق علاقاته الشخصية في باريس وواشنطن ولندن وهونغ كونغ وما يمتلكه من حظوة واحترام دوليَّين، نظراً إلى خبراته العالية. ولكن للأسف لا حكومة في لبنان كي يتشاور معها. وكان تحدث إلى البرلمان اللبناني الذي كان رد فعله أننا لا نستطيع القيام بأي إصلاحات يجب أن تقوم بها الحكومة. وبما أن لبنان في حالة “غيبوبة” والمسؤولين مشغولون بوزير بالزائد أو بالناقص وغير مهتمين بمعالجة الأزمة، يحاول هذا الفريق التواصل مع المنظمات الدولية المهتمة إلى حين استيقاظ لبنان من سباته.