القاضي الذي اغتالته المافيا كرّسه الفاتيكان طوباوياً: أيّ رسالة؟* فارس خشان
النشرة الدولية –
التاسع من أيّار(مايو) 2021، لم يدخل تاريخ الكنيسة الكاثوليكية فحسب بل تاريخ القضاة في العالم، أيضاً، مع إعلان البابا فرنسيس طوباوية القاضي الإيطالي روزانو ليفاتينو، الذي اغتالته مافيا “كوستا نوسترا” في جزيرة صقلية، على بعد كيلومترات عدة من منزله، في مدينة أغريجنتو، في الحادي والعشرين من أيلول (سبتمبر) 1990.
لم يسبق للكنيسة الكاثوليكية أن أعلنت طوباوية أيّ قاض في تاريخها، ولكنّ شجاعة ليفاتينو وسداد أعماله وإيمانه المشهود، من جهة وتطابق منهجيته في مكافحة المافيا مع تطلعات البابا فرنسيس، من جهة أخرى جعلت الفاتيكان يخطو في هذا الإتّجاه.
ويقود البابا فرنسيس حملة قوية ضد المافيا، لتخفيض تأثيراتها على المجتمعات، في فترة أكثرت فيها من محاولات جذب رجال الدين اليها، بسبب “كرمها” في التبرّع للكنائس، وبسبب استفادتها القصوى من التأثيرات المالية والإقتصادية التي سبّبتها جائحة كورونا، بحيث دخلت بمالها النقدي إلى دائرة استقطاب عدد كبير من المتعثّرين.
وبمناسبة إعلان طوباوية “شهيد العدالة والإيمان”-وهو اللقب الذي أُطلق على القاضي ليفاتينو-كرّر البابا فرنسيس شعاره: لا يمكن أن تكون مسيحياً، إذا كنتَ مافيوزياً”.
وكان ليفاتينو الذي لم يردعه لا الترغيب ولا الترهيب عن مطاردة كبريات العائلات التي تتشكّل منها المافيا الصقلية، من دون أيّ تمييز أو استثناء أو محاباة، قد تخلّى نهائياً عن فكرة تشكيل عائلة خاصة به، حتى لا يعرّضها للخطر وحتى لا يُسقط نفسه في خطر ابتزازه العاطفي، فترك، بالإتفاق، خطيبته، رادّاً، بذلك، على تهديدات القتل الكثيرة التي كان يتلقّاها.
وعمل ليفاتينو في هدي حكمة رفعها: “إنّ إحلال العدالة مثله مثل الصلاة وتكريس الحياة للّه”.
وعند اغتياله، انشغل المحققون طويلاً، في تفكيك شيفرة من ثلاثة أحرف لاتينية وجدوها تتقدّم مفكرته، كما الكثير من ملفاته: STD.
وبعد جهد توصّلوا الى نتيجة، فهذه لم تكن شيفرة تدل إلى جهة مافيوزية يستهدفها القاضي الذي قضى برصاص شابين هاجماه، بل تعني، “بحماية الله”.
وكانت هذه العبارة، تتصدّر الأحكام التي يصدرها القضاة في العصور الوسطى، وتوسّلها ليفاتينو الذي رفض تزويده بمواكبة وتوفير حماية أمنية له، وأصرّ على أن يكون عمله، بعيداً من “الشعبوية” وسلوكه بمنأى عن “النجومية”.
وفي الكاتدرائية التي أقيم فيها قدّاس إعلان طوباويته، جرى عرض القميص الذي كان يرتديه عند اغتياله، حيث تظهر دماؤه المسفوكة والفجوات التي أحدثتها الرصاصات التي استهدفته.
وكان أحد المجرمين اللذين قد اغتالاه، قد أعلن توبته، وكشف كل تفاصيل الجريمة، فأشار الى أنّ آخر كلمات قالها القاضي قبل الإجهاز عليه: ماذا فعلت لكم، يا أعزّائي؟”
وجاء الرد على سؤاله الذي جرى تفسيره على أنّه إعادة صياغة لقول السيد المسيح على الصليب عن قاتليه بأنّهم لا يعرفون ماذا يفعلون، باستهداف فمه برصاصة.
إنّ إقدام الفاتيكان على رفع “شهيد العدالة والإيمان” الى مرتبة الطوباوية، وهي الدرجة التي تسبق التقديس وفق القانون الكنسي الكاثوليكي، خطوة تستحق التأمّل، سواء كان المرء يتقاسم هذا “النهج الإيماني” أو لا يتقاسمه، لأنّ السلطات القضائية في العالم عموماً، وفي العالم الثالث، خصوصاً باتت بحاجة الى “أبطال” تسترشد بهم، كما تحتاج الشعوب الى نماذج تقيس عليهم سلوك القضاة الذين يتولّون لفظ الأحكام باسمها.
وهذه النوعية من الأبطال لا تشبه لا القاضي المتقاعس ولا ذاك الذي يتحرّك تحت وابل من الكاميرات، حيث ينطق ناشراً الحقد مكان العدالة، والفئوية بدل الشمولية، مستهدياً بالشعبوية في خدمة فئة، بدل المبادئ السامية التي تحمي المصلحة العامة.
في كثير من دولنا، لا يزال من المبكر أن نحلم بقضاة على قياس “الطوباوي” روزاريو ليفاتينو، لأنّ النظام السياسي الذي تتحكّم به المافيا قادر على تصفية أيّ قاض شجاع ومستقيم وعادل ومتّزن، ليس عندما يستهدف مصالحهم فحسب، بل حتى قبل دخوله إلى معهد الدروس القضائية، أيضاً.
إنّ الفاتيكان، بتطويبه ليفاتينو، يُعيد إلى لعمل القضائي مفهوم الرسالة، بعدما فقدها، في عالم حوّل الأديان الى أدوات صراع على السلطة والحصص والمنافع، وهمّش روحانيتها وهشّم روحها.