رواية البريطانية مونيك روفي تتصدر قوائم الأكثر مبيعا بجوها الأسطوري الواقعي
النشرة الدولية –
مونيك روفي، كاتبة بريطانية ولدت في ترينيداد جنوب الكاريبي عام 1965. عرفت بطريقتها المبتكرة في معالجة موضوعات اجتماعية وسياسية وعاطفية، كما في رواياتها، “شمس كاذبة”، و”المرأة البيضاء على الدراجة الخضراء”، و”بيت الرماد”، و”لقاء الحب”، التي رشحت لجوائز عدة، منها جائزة “أورانج” لعام 2010 وجائزة “انكور” لعام 2011.
روايتها الأخيرة “حورية جزيرة بلاك كونش” The Mermaid of Black Conch تصدرت قوائم الكتب الأكثر مبيعاً وترشحت لجائزة “غولدسميث”، وجائزة “فوليو”، وفازت بجائزة “كوستا” 2021، وفيها تلج روفي، عالم الواقع بتفاصيله الدقيقة والحقيقية، من باب الخيال.
يمتد إرث قصص الحوريات إلى نحو ثلاثة ألف عام، عندما أحبت الآلهة أتارغاتيس أحد البشر وقتلته من دون قصد، فألقت بنفسها في البحيرة تكفيراً عن ذنبها لتصبح إنسانة من فوق الخصر وسمكة من تحته. وفي أواخر القرن السادس عشر اشتهرت قصة البحار الفرنسي الذي صادف في إحدى الجزر القبرصية حورية تسبح في الماء وفتن بجمالها، فقام باصطيادها وخبأها عن أعين الناس.
من هنا استقت روفي روايتها التي تدور أحداثها في سبعينيات القرن الماضي في قرية كاريبية صغيرة، كنموذج لمجتمع شكلته الآثار اللاحقة للعبودية وكيف تعايش معها. وتحمل الرواية إلى جانب عنوانها الرئيس عنواناً فرعياً “قصة حب”، فهي قصة حب في الطريقة التي تتفاعل بها بشكل هزلي مع الفولكلور والأساطير، وكذلك بما تتضمنه من ثلاث قصص مختلفة عن الحب. الصياد ديفيد وحورية البحر، وامرأة بيضاء من ذوات الأملاك مع رجل ملون يلتقيان بعد عشر سنوات من فراقهما، وبائعة بضائع قديمة مع شرطي فاسد. هذه الحكايات الدرامية تقدم صورة حية للحب حين يتأثر بالزمن والجشع والعرق والآثار التاريخية للعبودية والاستعمار.
تبدأ هذه الرواية الرومانسية الساحرة مع الصياد ديفيد، الذي يجلس بتكاسل في زورقه يغني عازفاً على غيتاره في انتظار أن تصيد شبكته شيئاً. لكن أغنيته العذبة تجذب ساكناً في البحر لم يكن يتوقعه؛ حورية عمرها قرون تدعى إيكايا، وهي امرأة من السكان الأصليين، لعنتها نساء قريتها منذ زمن بعيد من فرط جمالها، وعاشت لقرون تسبح وحيدة في المحيط الهائل. وحين سمعت أغنية هذا الرجل افتتنت به، لكن في افتتانها يكمن هلاكها. تسمع محرك زورقه مرة أخرى وتتبعه، فتجد نفسها تحت رحمة السياح الأميركيين، الذين هبطوا على الجزيرة للمشاركة في مسابقة الصيد السنوية. بعد معركة مخيفة، ينجحون في سحبها من البحر ويثبتونها على الرصيف كغنيمة، فتقع القرية في بلبلة كبرى؛ البعض يؤازر والبعض يستهجن، بينما يستفيد آخرون من هذا الاكتشاف. وفي غضون ذلك، يختمر إعصار يهدد بقلب الجزيرة رأساً على عقب.
حين يقع ديفيد، الصياد المخلص في حب إيكايا، يحاول إنقاذها من الأيدي العابثة، وما يجعل الرواية مثيرة حقاً هو طريقة تجسيد هذه الأحداث الأسطورية بتفاصيل دقيقة للغاية من العالم الحقيقي. تخوض إيكايا، المخبأة في غرفة نوم ديفيد، مخاطر الحياة وملذاتها على الأرض بعد تعفن ذيلها، وتحاول جاهدة المشي من جديد مرتدية زوجاً قديماً من أحذية ديفيد المصنوعة من جلد الغزال الأخضر. فتحتا أنفها تفصدان “كل أنواع الرخويات وسرطانات البحر الصغيرة”. ويخشى ديفيد أن تجذب الرائحة والضوضاء الصادرة عن أغنيتها الخالية من الكلمات الجيران الفضوليين، وبخاصة بريسيلا، التي يضخ تدخلها في الأحداث دفقات من الكوميديا في السرد. أخيراً، بصعوبة وألم وبطء شديد، تتحول إيكايا إلى امرأة مرة أخرى. وتصف روفي بوضوح الطريقة التي يحدث بها التحول وسقوطها عند المشي وتعثرها في الكلام.
ما يلي هو قصة مليئة بالغيرة والحب والصداقة واستكشاف لما يعنيه الحب وليس الامتلاك، على العكس تماماً من رواية الصياد الفرنسي الذي يتخذ من حوريته خليلة، وينجب منها 7 أبناء قبل أن يقوم بقتلها خوفاً من أن يظفر بها غيره بعد موته. فبينما تنطوي الرواية على غرائز الرجال العازمين على تدنيسها، وتسلط الضوء على موضوعات الهيمنة والاستحواذ من خلال السياح الأميركيين الذين استولوا في البداية على إيكايا وتعاملوا معها بعدوانية تقشعر لها الأبدان، فإن روفي في المقابل تشيد قصة حب متينة قوامها الثقة بين حورية البحر وديفيد، الذي يتعلم تدريجياً كيف يفصل رغبته الجنسية عن رغبته في الاستحواذ، لا سيما عندما تتكيف إيكايا بعد تحولها من حورية إلى امرأة حقيقية في العصر الحديث.
تتشابك جميع الشخصيات وحيواتهم بشكل جذاب في هذه الرواية لتشكل صورة فريدة غنية بالحياة، بكل عيوبها وعناصرها العدوانية. مس راين، المرأة البيضاء العنيدة التي عاش أسلافها في الجزيرة لأجيال، وورثت منزلاً كبيراً وامتيازات أفضت إلى إفساد علاقتها بسكان جزيرة سانت كونستانس، عندما تدخل إيكايا حياتها تلعب دوراً مهماً في استقصاء عصر طويل قبل أهوال الاستعمار. ويعمل حضورها المفاجئ بمثابة محفز لبعض الشخصيات على تجاوز الماضي، منهم الطفل ريجي، ابن مس راين الأصم البالغ من العمر 10 سنوات، الذي تعوضه صداقة إيكايا عن فقدان والده، ويساعدها هو على التدرب أن تكون امرأة طبيعية ومنحها بعض الاستقلالية.
الطريقة التي تتكشف بها القصة تتم ببطء ولكن بشكل مهيب غني بالصور الحية التي تجذب انتباه القارئ وخياله، فيجد فيها الكثير من الحزن الشفيف بالدخول إلى وعي شخص ملعون يعيش في قاع البحر لمئات السنين، وهناك تصبح الوحدة رفيقة عزيزة تصل إلى حد الإدمان. ذات مرة، تقف إيكايا على اليابسة تفكر “كنت وحيدة، أنا الآن أفتقد البحر. أفتقد وحدتي”. وتصف ملاحظة روفي على الجزء الخلفي من الكتاب كيف أن “أساطير حوريات البحر، النساء المغويات، منتشرة في كل جزء من العالم، وغالباً ما تلعن النساء الشابات على لسان نساء أخريات”.
المؤثر في رواية روفي هو طريقة التحول البطيء الذي ينطوي عليه تغيير طويل الأمد: “يحدث التغيير كما يحدث دائماً، من سلسلة من الأحداث ذات المدى الزمني الطويل، وهي طويلة جداً بحيث لا يمكن رؤيتها من الخلف إلى الأمام، إلى أن تحدث بالفعل”. كما أن تعدد منظور السرد بين المباشرة، وأفكار إيكايا وديفيد، إضافة إلى مقتطفات غير مصقولة من الشعر على لسان الحورية (“الرجال اليانكيون/ لديهم قارب كبير/ أتوجس شراً، فأغوص لأسفل”)، مع مداخلات صحافية ومقتطفات من المونولوغات الداخلية لشخصيات أخرى، حركت السرد في مناطق متلاطمة كأمواج البحر. لكن أجمل ما يميز كتابة روفي التي تمتزج فيها اللمسات السحرية مع الواقعية المعنية بالتفاصيل؛ مدى صراحتها المتعاطفة بشدة في تصوير الحياة الجنسية لهذه الشخصيات والطريقة الصادقة التي يتصارعون بها مع تحيزاتهم، كما لو أنهم يتراوحون على مقياس متدرج من الخير إلى الشر، في نوع من الفهم الإيجابي الذي لا يصدر أحكاماً بقدر ما يفتح حواراً يساعد القارئ على التفكير في هذه الموضوعات من زوايا مختلفة.