هل تخدم “الحرب الأهلية” الفلسطينيين فعلا؟
بقلم: فارس خشّان
النشرة الدولية –
مع دنو موعد انطلاق أكبر مناورة عسكرية إسرائيلية، تُحاكي حرباً ضد قطاع غزّة والضفة الغربية وجنوب لبنان، في آن واحد، وضعت إيران والفصائل التابعة لها أو المتعاونة معها، في كل من لبنان وسوريا وفلسطين، نفسها في أقصى حالات التأهّب.
ومع حلول الموعد المقرر لانطلاق هذه المناورة التي كان مقدّراً لها أن تستمر شهراً كاملاً، وجدت إسرائيل نفسها تخوض حرباً حقيقية لا “افتراضية”، إذ إنّ “انتفاضة حي الشيخ جرّاح” فتحت جبهة قطاع غزّة على مصراعيها، فوصلت صواريخ “حركتي “حماس” و”الجهاد الإسلامي” إلى “أبعد أبعد من حيفا”، ومن دون “جميلة” صاحب هذا الشعار: “حزب الله”.
إلّا أنّ تغيير وظيفة الاستنفار الإسرائيلي، على أهميته ليس الحدث الفعلي، على اعتبار أنّ الجميع لم يكن يسأل عمّا إذا كانت الحرب سوف تقع، بل عن موعد وقوعها، ولهذا، فإنّ الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني أعدّا لها ما يملكان من قوّة، فـ”حركة حماس” تحاول تغيير المعادلة التي تحاصرها بتوسّل صواريخها وإرباك “الإبراهيميين” العرب و”استقطاب” كبار الوسطاء، فيما إسرائيل ستتوسّل تفوقّها الاستراتيجي لتثبيت قوة الردع، من جهة أولى وإعادة إدارة الرئيس جو بايدن إلى “مربّع الدعم”، الذي كانت قد سكنته مع إدارة دونالد ترامب، من جهة ثانية واختبار صلابة “حلفائها” العرب الجدد، من جهة ثالثة.
إذن، فانتقال إسرائيل من خانة “المناورة العسكرية” إلى خانة “الحرب العسكرية” ليس الحدث الفعلي، بل مظاهر “الحرب الأهلية” التي اندلعت بين اليهود، من جهة والعرب، من جهة أخرى، في مدن وبلدات كان كثيرون يعتقدون بأنّها تصلح نماذج للعيش المشترك.
ومن يدقّق في ما يحصل بين اليهود والعرب داخل إسرائيل يُدرك أنّ الموضوع لا علاقة له بانتفاضة الفلسطينيين ضد السلطة الإسرائيلية، بل هو مواجهة أهلية حقيقية، يتحمّل مسؤولية اندلاعها اليمين اليهودي المتطرّف وليس السكّان العرب.
إنّ مسارعة كثيرين من الناطقين باللغة العربية إلى تمجيد المواجهات الأهلية بين اليهود والعرب الإسرائيليين على أساس أنّها انتفاضة وولادة جديدة، فيها الكثير من الاستخفاف بالواقع وتداعياته وانعكاساته.
وعلى سبيل المثال، ليست الحرب المندلعة بين قطاع غزّة من جهة وإسرائيل من جهة أخرى، هي ما قد تؤدّي إلى إخراج النظام الإسرائيلي عموماً ورئيس الحكومة بنيامين نتانياهو، خصوصاً من الورطة الدستورية التي يعيشها، بل هذه “الحرب الأهلية” بالذات، بدليل ما برّر به رئيس حزب “يمينا” نفتالي بينيت لإعادة الحرارة الى مفاوضاته الحكومية مع نتانياهو، وتجميد المساعي التي كادت أن تولّد حكومة مناهضة له بدعم من “القائمة العربية الموحدّة”، برئاسة منصور عبّاس.
إنّ اعتبار بينيت رفضه تشكيل مناهضي نتانياهو لحكومة جديدة، لأنّ هكذا حكومة “لن تكون قادرة على التعامل مع أعمال الشغب والمواجهات في جميع أنحاء البلاد بين اليهود والعرب”، يُبيّن أنّ ما كان يمكن أن يفيد العرب من تحوّلهم إلى “بيضة القبّان” في ظل انقسام يهودي كبير، قد تلاشى.
ومن يعرف قصة نشوء دولة إسرائيل، يعرف أيضاً أنّها أرست دعائمها في مواجهات اندلعت بين العرب واليهود، ارتكبت في خلالها أبشع المجازر، وتالياً فإنّ هذا النوع من المواجهات ليس طارئاً، بل هو جزء من القواعد التأسيسية للدولة الإسرائيلية التي تعاملت، دائماً، مع “عرب 48” على أساس أنّهم “مشكلة كيانية”، ممّا دفع، في أكثر من ظرف، بعض المنظّرين الصهاينة الى وضع كثير من الخطط لاصطناع ظروف تسمح بإطلاق آليات ترحيل هؤلاء (ترانسفير).
وإذا كانت الانتفاضات والثورات تهدف إلى خدمة الفئات المقهورة أو المضطهدة أو المظلومة، فإنّ لا شيء يمكن أن يصيبها بنوائب إضافية سوى الحروب الأهلية، ولهذا، فإنّ الأنظمة القمعية والشمولية والتمييزية، وللتخلّص من عبء الانتفاضات والثورات، تختار الذهاب إلى حرب أهلية، مثلما حصل، على سبيل المثال لا الحصر، في سوريا.
ولهذا، قبل التهليل لهذه المواجهات الأهلية بين العرب، من جهة واليهود، من جهة أخرى لا بد من التدقيق في المعطيات والانعكاسات.
إنّ المواجهة العسكرية بين إسرائيل، من جهة وقطاع غزّة، من جهة أخرى مهما طالت ومهما دمّرت ومهما قتلت، فهي محكومة بأن تنتهي إلى اتفاق جديد يرعى “قواعد الاشتباك” بما يراعي “موازين القوة” التي سوف تُظهرها، قبل أن يجلس كل طرف مع نفسه ليقيّم أرباحه ويحصي خسائره، ولكن “الحرب الأهلية” فتحت جرحاً قديماً لا يمكن أن يُنهيه أي اتفاق، بل هو سيولّد مزيداً من القهر ومن المظلومية ومن التطرّف المتقابل، ومن الخطط التيئيسية ومن المؤامرات التهجيرية.
إنّ دولة إسرائيل، بكل ما تملكه، ستكون في خدمة اليهود، فمن تراه سيكون في خدمة الفلسطينيين، لأنّه، في هذا النوع من الانقسام، لا تنفع الصواريخ، مهما بلغ مداها، ولا الشعارات، مهما حسنت صياغتها؟
في ظل ظروف أفضل بكثير، حيث كانت القضية الفلسطينية مقدّسة، ضاعت حقوق الفلسطينيين، فكيف يمكن استعادتها، في الظروف الراهنة، حيث كل دولة عربية منشغلة بذاتها وبتحديّاتها، وحيث الشعوب، مثل الشعبين اللبناني والسوري، تمضي أوقاتها في انتظار صفيحة بنزين، وقارورة غاز، وحبّة دواء، وومضة كهرباء، وعلبة حليب، و… “صندوق إعاشة”.
رائعة المشاعر وجميلة الأحلام وملهمة التمنيات، ولكنها، في حال لم تتوافر معطياتها الموضوعية وإمكانياتها الواقعية، تصبح مكوّنات لكارثة جديدة تلحق بشعب أرهقه إحصاء نكباته.
ليس المطلوب، بطبيعة الحال، أن ينكفئ الفلسطينيون عن الدفاع عن أنفسهم، بل أن يجري التعامل مع ما يحدث معهم، على أساس واقعي، وليس على أساس “ملحمي”.
في الواقع، إنّ الفلسطينيين أنجزوا الكثير، يوم حملوا الحجر في مواجهة الدبابة، وأخرجوا أنفسهم من فخ “الحرب الأهلية” قبل أن تقتحمهم “العبوات البشرية” و”صواريخ الممانعة”.
كادت “انتفاضة حي الشيخ الجرّاح” التي لقيت تعاطفاً شعبياً ودولياً عارماً أن تعيد الفلسطينيين إلى “دائرة المكاسب” لكنّ الصواريخ، من هنا والتطرف اليهودي، من هناك قلبا الحلم إلى كابوس.