الاقتصاد الاردني… بين السبات واليقظة
بقلم: ا.د. عبدالسلام امين النابلسي
النشرة الدولية –
تتمحور جميع كتب التكليف السامية للحكومات المتعاقبة حول المواطن وضمان قوته وتعليمه ورعايته الصحية ومكافحة الفقر والحد من البطالة وخلق فرص العمل من خلال الشراكة الحقيقية مع القطاع الخاص وتشجيع الاستثمار والعمل الجاد على دعم المشاريع الريادية، وعلى الرغم من الجهود المبذولة لتحقيق الرؤى والتوجيهات الملكية إلا أننا لم نحقق الكثير؛ فقد ارتفعت نسب البطالة بين الجنسين وتعددت أشكال الفقر ومستوياته، وتراجعت كفاءة وملاءمة مخرجات التعليم وأعباء كثيرة ضيقت الخناق على المواطن. ولعل هذا يدفع للتفكير مليا وجديا بمدى نجاعة السياسات الموضوعة وبآليات اتخاذ القرار الاقتصادي وقدرة الحكومات على تبني النهج التشاركي والشمولي ببعديه الفكري والجغرافي، فللأسف يقتصر تشكيل الفرق والمجالس الاستشارية على طبقة معينة تتمركز في عمان لتبحث قضايا وتصيغ سياسات خلف أبواب مغلقة ما جعل المواطن مجرد متلق لهذه القرارات غير واثق بها لمجرد بعده عن مصدرها في غالب الاحيان.
بداية أود أن أؤكد على ضرورة وجود مشروع وطني ينهض بالاقتصاد الأردني ويقوم على تعزيز المشاريع الانتاجية الريادية التي تعظم القيمة المضافة للصناعات المحلية ضمن الخطط التنموية ويعمل على زيادة تنافسية المنتجات والخدمات الوطنيه، مشيراً الى الصعوبات التي واجهت البرامج الاقتصادية السابقة والتي ادت الى تراجع الانتاجية وبالتالي تراجع الاقتصاد بشكل عام وارتفاع نسبة البطالة وخاصة بعد التأثير الناجم عن تفشي فيروس كورونا مما اثر سلبا على الميزان التجاري وعمّق من وقوعنا تحت رحمة صندوق النقد الدولي والجهات المانحة.
اعتقد ان على الدولة أن تعيد النظر في النموذج الاقتصادي الذي اعتمدناه خلال العقد الأخير والقائم على اتفاقيات مع صندوق النقد الدولي مفادها ان الأردن يسعى الى تخفيض نسبة المديونية الى الناتج المحلي الإجمالي من 96.1% الى 77% في عام 2021، وهذا في تقديري قد تمت تجربته عبر الحكومات السابقة، والعجيب في الامر أننا نلجأ لذات الأدوات والطريقة والمدخلات متوقعين مخرجات ونتائج مختلفة، وهو الامر الذي أثبتت التجارب المتلاحقة استحالة حدوثه الى أن وصل اجمالي الدين العام الى 110% من اجمالي الناتج المحلي فالنمو الاقتصادي لم يعد نمواً والبطالة في إزدياد وأزمة اللاجئين ما زالت تشكل عبء” على الاقتصاد والموارد العامة والبنية التحتية للمملكة، والافاق الاقليمية محفوفة بالتحديات والمخاطر.
وبرأيي ان السبب وراء ذلك يعود لانشغال الحكومات المتعاقبة بقضايا متعددة الى جانب الهم الاقتصادي وعلى الرغم من اهمية تلك الملفات الا ان ذلك قد شتت الجهود واهدر المصادر دون ان يلمس المواطن اثرا ايجابيا حقيقيا على حياته اليومية خاصة في ظل ضعف التعامل الواقعي مع القضايا الاقتصادية وخاصة الملحة منها نظرا لما اشرت اليه سابقا من ضعف التشاركية الحقيقية في عملية صنع القرار. كما أن غياب التنسيق والتناغم بين الغرف التجارية والصناعية والنقابات من جهة وبينهم وبين الحكومة من جهة اخرى ساهم في تفاقم الامور واللجوء الى الحلول الآنية في ظل غياب استراتيجية واضحة مبنية على المعلومة الدقيقة والادلة الداعمة.
وفيما يلي مجموعة من الحلول المقترحة للخروج من المأزق الاقتصادي الذي يمر به الاردن:
- وبالرغم من تنفيذنا لجميع الشروط والتعليمات والبرامج الصادرة عن صندوق النقد الدولي والمتمثلة في الالغاء النوعي لدعم المحروقات وتوسيع الوعاء الضريبي والحد من الاعفاءات الضريبية لمنشأت الاعمال ومحاولات الحكومة اليائسة لاحتواء الانفاق والحد من الهدر والخسائر في قطاعي المياة والطاقة، فقد وصلنا الى ما وصلنا اليه من تفاقم في الدين العام والذي سيأخذ منحنى اكثر خطورة من ذي قبل فهذا يعني بأن الاقتصاد بشكل عام بات في خطر محدق. وعلى الرغم من ان القطاع المالي ما زال يتسم عموماً بوضع جيد ولكن يتعين مواصلة الجهود لتعزيز امنه واستقراره ومواصلة تركيز السياسة النقدية على دعم نظام ربط سعر الصرف وتحفيز النمو الاقتصادي من خلال خفض الفائدة . وبالتالي فإن السير على هذا النهج لن يزيد اقتصادنا الا عقماً. فيجب على الدولة وصانعي القرار اعادة النظر بكافة الانطمة والتشريعات وتغيير نهج السياسة المالية التي تم تطبيقها خلال السنوات الماضية وتحفيز وتنشيط الاقتصاد من خلال خفض الضرائب والوعاء الضريبي وخفض النفقات وضرورة الاخذ بعين الاعتبار المقولة الشعبية (بيع كثير واربح قليل) وهذا ينطبق في وضعنا الحالي على النظام الضريبي حيث انني اجزم بأن خفض الضرائب يعد من اساسيات تشجيع وتنشيط الحركة الاقتصادية.
باعتقادي الشخصي، فإنني أرى بأن المخرج أو السيناريو الافضل لنهضة اردننا الغالي في ظل الازمات الحالية وما قد يستجد في المنطقه بشكل عام هو تطويع السياسات والاصلاحات بما يتناسب مع التحديات الاقتصادية والاجتماعية وبما يتناسب مع واقعنا. ان السعي لتحويل المملكة الى منطقة اقتصادية خاصة ومركز اقليمي للريادة والابداع واستثمار موقع الأردن الجيوسياسي لتقديم خدمات التخزين اللوجيستي والنقل والصناعة والزراعة واعادة التصدير خاصة في ظل ما تشهده المنطقة من تطور في العلاقات الدبلوماسية بين اسرائيل والدول العربية سيسهم في تحسين الظروف من خلال تحقيق نمو احتوائي يشمل شرائح أوسع من السكان.
وفي هذه الحالة، يتعيّن على الدولة اتباع نهج مغاير تماما، حيث يتم تقليص الوعاء الضريبي والغاء الرسوم الجمركية ومكافحة الفساد بكافة انواعه ومكافحة التهرب الضريبي وتقديم عدة اشكال اخرى من الدعم للمشاريع المعنية بالطاقة والمياه والامن الغذائي، وتعزيز العدالة والإنصاف والحوكمة الرشيدة وتنفيذ إصلاحات في عدة مجالات لتحسين التنافسية، وآفاق التوظيف والتشغيل، وإعادة بناء الثقة مع وبين مكونات المجتمع الامر الذي من شأنه أن يؤدي الى تسارع وتيرة الانتاج بكافة أشكاله وحماية الانتاج المحلي من المنافسة الخارجية وارتفاع قيمة الناتج المحلي ووفرة السيولة النقدية كما سيدفع الى استقطاب المشاريع والاستثمارات العالمية للاستفادة من هذه الميزات. وفي هذه الحالة حتماً سيترتب على الحكومة مزيد من الاعباء المالية والاستحقاقات لسنوات قليلة، الامر الذي يوجب على الدولة اعادة جدولة الديون الخارجية والحصول على قروض ومنح جديدة لتطبيق خطة الاصلاح وتعزيز الشراكة والتكاتف مع القطاع الخاص لتغطية كلف العجز، ولو جزئياً، من خلال الاستثمار المباشر في المشاريع الريادية والانتاجية وسيبدأ الاقتصاد بالتعافي وستكون النتائج المرجوة هي لحظة انتصار على سياسة الاقراض الداخلي والخارجي.
وهناك عدة طرق لتنفيذ هذا التحول الذي لا يمكن تنفيذه بين ليلة وضحاها بل يتطلب من الحكومة وضع برنامج عمل يعتمد النهج التدرجي والمرحلي ويقوم على دراسة متعمقة للميزات التنافسية لكل محافظة من محافظات المملكة بل وكل منطقة من مناطقها واحتياجات الوصول للاستثمار والتوظيف الأمثل لهذه الميزات وما يتطلبه ذلك من إجراءات محفزة للاستثمارات الأجنبية والمحلية في سبيل تحويل المملكة الى منطقة اقتصادية خاصة ووضع حلول جذرية لمشكلة التشغيل والحد من البطالة التي ستتجاوز نسبة 30% خلال الشهور الستة القادمة اذا ما واصلنا السير بنفس السياسة المتبعة حاليا.
- دعم القطاعات النشطة في الاردن واستثمارها بالشكل الأمثل وإدخال بعض التحسينات السريعة عليها لتطويرها باعتبارها مصادر للدخل السريع وهذا، من وجهة نظري، بالرغم من انه لا يعد حلا نهائيا للأزمة، الا انه يسهم في ايجاد حلول آنية تعطي الاقتصاد نوعاً من الاستقرار. وعلى سبيل المثال قطاع السياحة والذي يعاني من جائحة كورونا الا أن الفرصة مواتية للعمل على تطوير الخدمات وخفض كلف الاقامة لاستقطاب السياحة الداخلية والخارجية على حد سواء.
- الامن الغذائي: إن الامن الغذائي هو مصطلح يشير الى ما تستطيع الدولة تأمينه من مخزون كاف سليم وآمن من المواد الغذائية مع ضمان استمرارية توفره والحصول عليه من قبل جميع فئات المجتمع. غير أن معوقات الامن الغذائي تكمن في افتقار الانسجام بين القطاعين الزراعي والصناعي والتركيز على تطوير القطاع الصناعي الضيق اصلاً على حساب القطاع الزراعي بشقيه النباتي والحيواني، على الرغم من أن المنطق والعلم يدعوان الى أن تسبق ثورة خضراء الثورة الصناعية، لأنها ستدفع بشكل تلقائي إلى تطوير الصناعة لغايات الاكتفاء الذاتي من الصناعات الزراعية والمساهمة في رفد الناتج المحلي بأرقام اضافية وتحفيز القطاع الصناعي على تصريف الفائض من الانتاج الى الاسواق العالمية.
كما ان قلة وشح مصادر المياة وسوء استخدامها، وعدم استصلاح الاراضي القابلة للزراعة بغض النظر بعلية كانت ام مروية، والتصحر والزحف العمراني وقلة التوجية والاستثمار في القطاع الزراعي وتدريج وتوظيب المنتوجات الزراعية وتخزينها وارتفاع كلف التمويل والهجرة الداخلية من المناطق الريفية الى المدن والنقص الحاد في المكننة الزراعية وغياب استخدام شتى انواع التكنولوجيا في جميع مراحل الزراعة والانتاج وعدم التركيز على الزراعات الحديثة وانعدام الاستثمار في الابحاث العلمية الزراعية والاعتماد على الغذاء المستورد وقلة تدريب وتأهيل العمالة الزراعية وضعف التسويق وعدم تفعيل دور الجمعيات والتعاونيات الزراعية ودعمها للعمل كمظلات للمزارعين واصحاب الحيازات الصغيرة، والبيروقراطية في التعامل مع الدوائر ذات الاختصاص واللامنهجية في ادارة ملفات الامن الغذائي والاكتفاء الذاتي وضعف التوجيه والارشاد الزراعي جميعها من المعوقات التي يجب وضعها على سلم اولويات هذه الثورة الخضراء.
من هنا نجد أن الأوان قد آن لتطبيق نموذج جديد يركز على المقام لا البسط بحيث يتم دفع الناتج المحلي الاجمالي من جميع القطاعات بما فيها الخدمات وصولا الى مستويات جيدة من الاكتفاء الذاتي، وبالتالي خلق فرص عمل في جميع القطاعات والتي بدورها تحد من البطالة وتحد من نسب الفقر بكافة أشكاله وبذلك نلمس مفهوم التنمية المستدامة والشاملة في مختلف الاصعدة الاجتماعية كانت ام الصناعية والزراعية والخدمية والبيئية في كافة مناطق مملكتنا الحبيبة.
- حظي الاردن بمقومات مناخية قد تجعله رائدا في انتاج كافة اشكال الطاقة النظيفة اذا ما توفرت لنا الارادة والعزيمة، مما يستدعي اهتماما أكبر بمشاريع الطاقة المتجددة وتطوير شبكات البنية التحتية للطاقة وتذليل العقبات التي تعيق المشاريع الانتاجية والتي بدورها ستساهم في خفض كلف الانتاج والمعيشة وخفض قيمة الفاتورة النفطية.
- لطالما افتخر الأردن بطاقاته البشرية باعتبارها رأس المال الرئيسي في ظل، ولن أقول شح الموارد، بل ضعف الاستثمار الأمثل لما يتوفر من موارد، ولعل ذلك يتطلب أيضا مزيدا من الجهود في مجال رسم السياسات التعليمية والتعلمية بشكل يعزز من ربط مخرجات التعليم على المستوى المحلي بل والمناطقي باحتياجات السوق من حرف ومهن وسياحة وزراعة وطاقة متجددة وغيرها. ومن بين الخطوات الإيجابية في هذا المجال، تأسيس جامعة سمو ولي العهد الأمير الحسين بن عبدالله الثاني التقنية وهي تجربة رائدة ومهمة تفتح للشباب آفاقا جديدة ونأمل أن تسهم في تغيير نظرتهم لسوق العمل التقليدي وتوجههم إلى مزيد من الابتكار والإبداع لنجدد بناء رأس مالنا البشري.
- تشكل المرأة قرابة ال 50% من السكان، كما تعد نسبة تعليم الإناث في الأردن من أعلى النسب في منطقتنا، وبالمقابل فإن نسب انخراط المرأة الأردنية في سوق العمل هي من أدنى النسب ليس فقط عالميا وإنما أيضا في الإقليم، وينطبق ذلك أيضا على مساهمة المرأة في قطاع الريادة، الأمر الذي يتطلب تكثيفا للجهود الرامية إلى تعزيز المشاركة الاقتصادية للمرأة في مختلف القطاعات الزراعية والصناعية والخدمية والريادية ووضع خطط وسياسات بالشراكة مع القطاع الخاص تسهم في جذب المرأة للعمل في هذا القطاع، وتعزيز انتاجيتها ومساهمتها في النهضة الاقتصادية والتنمية المستدامة. ولعل سياسات الاستجابة لجائحة كورونا والقرارات الحكومية الهادفة للتعافي مما فرضته من تحديات هي دليل على ضعف الالتفات إلى المرأة الأردنية ودورها المحوري في دعم الجهود الوطنية على مختلف المستويات.
- وأخيرا، يلعب الإعلام دورا رئيسيا في توجيه الرأي العام، وبناء أو هدم جسور الثقة بين مختلف مكونات المجتمع. ولا بد أن ترافق هذه الخطوات الإصلاحية خطة إعلامية تسلط الضوء على الإنجازات المتحققة وتبث الإيجابية في المجتمع وتحد من التوجهات والاتجاهات السلبية.
ومن هنا نجد أن الاردن يمتلك الإمكانات التي من شأنها أن تغير الكثير لو استثمرت بطريقة صحيحة، كما ان الموارد الطبيعية التي حبانا بها الله تعتبر من مقومات صناعات التعدين المختلفة كالبوتاس والفوسفات والسيليكا والصخر الزيتي وبعض المعادن .
اذا توفرت الارادة الحقيقية لدينا للانتاج ونزع ثوب المعاناة والخروج من هذا الوضع المظلم، فيتوجب علينا وضع خطة استراتيجية قابلة للتنفيذ وتذليل الصعوبات والتركيز على تجهيز الكفاءات على كافة الاصعدة وتسخير جميع الامكانيات لتغيير المسار نحو الهدف المنشود وكلي أمل أن يأتي هذا اليوم قريباً بإذن الله.