«الشيخ جراح» يفتح الجِراح
بقلم: ياسر السعدي
النشرة الدولية –
ما أشبه اليوم بالأمس، تمر السنون والقرون، والاعتداءات على المسلمين ومقدساتهم لا تتوقف، ويبقى التاريخ شاهداً حياً على تلك المؤامرات والحملات الاستعمارية على حضارتنا العربية والإسلامية من جهة، كما يظل شاهداً على تخلفنا وهزائمنا وسكوننا الأشبه بالموت من جهة أخرى، ومع كل صفعة صهيونية توجه إلى كرامتنا، سواء في فلسطين المحتلة أو غيرها، نقف حيالها مطأطئي الرؤوس خانعي الكرامة، لا حيلة لنا إلا رفع سيوف الاستهجان والاستنكار الجوفاء عبر التصاريح والتغريدات، رغم أننا، كما قال أعداؤنا، نملك كل مقومات القوة إذا أردنا صنعها، فلماذا وكيف وصلنا إلى هذا الدرك الأسفل من الهوان والتخلف والإذلال؟!
لماذا لا نتعلم من الدروس، التي تلقننا إياها بين الفينة والأخرى جيوش الاستعمار الغربي، ولا سيما الكيان الصهيوني، لإخضاع أمتنا لإرادتهم ومحو حضارة العروبة والإسلام؟
لماذا لم نُعد العدة بعدما قرأنا وسمعنا جيداً وصية لويس التاسع ملك فرنسا عام 1250م، التي أكد فيها ضرورة نشر الفرقة بين المسلمين لإضعافهم وعدم إقامة حكم صالح وسوي في بلادهم… مع ضرورة تخريب أنظمة الحكم لديهم بالرشوة والفساد والنساء، بل إنه دعا صراحة إلى الحيلولة دون قيام جيش قوي ووحدة عربية وإسلامية، مع العمل على زرع كيان أو دولة تابعة للغرب في قلب بلاد العرب.
لماذا لم نعر بالاً لما قاله المستشرق هانوتو (المستشار السياسي لوزارة المستعمرات الفرنسية في القرن التاسع عشر): «لقد تركزت أهداف الحروب الصليبية على استرجاع بيت المقدس من أيدي المسلمين البرابرة، وإزاحة نفوذهم من مهد الإنسانية، ونقلهم إلى الحضارة الغربية وتشويه الدين الإسلامي وإبراز الخلافات الشعوبية والقومية والعنصرية بينهم، وتمجيد القيم الغربية والحرية الفردية»؟!
لماذا تجاهلنا توصيات وقرارات مؤتمر كامبل (١٩٠٥-١٩٠٧) الذي يعد أخطر مؤتمر على الأمتين العربية والإسلامية، حينما اجتمعت أعتى الدول الاستعمارية لعقده (بريطانيا– فرنسا– بلجيكا– هولندا– إسبانيا– إيطاليا)، وفي نهاية ذلك المؤتمر المشؤوم خرجوا بوثيقة سموها وثيقة كامبل، تضمنت توصيات بالتركيز على المنطقة العربية والإسلامية وتفكيكها ومحاربتها وإضعافها، وإبقاء شعوب المنطقة جاهلة، وحرمانها من التقدم والتقنية، ومحاربة أي توجه وحدوي لديها، مع فصل دولها الإفريقية عن الآسيوية، وإقامة دولة إسرائيل «العازل» لتمنع التواصل والوحدة بين هذه الدول، وتحقيق أهداف الغرب؟!
لماذا لم نتعلم من دروس مؤتمر سايكس بيكو، ووعد بلفور، ومؤتمر سان ريمو وفرساي للإمعان في تقسيم الدول العربية كمناطق نفوذ لأوروبا؟!
لماذا نتجاهل دعم الدول الغربية لحليفتها إسرائيل وتقويتها، لتصبح قوة عظمى في المنطقة، وتقترب من تحقيق حلمها المنشود «من الفرات إلى النيل حدودك يا إسرائيل»؟!
لماذا مازلنا نعول على الأمم المتحدة التي شرعنت تقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية، وألغت السيادة العربية على القدس، وقررت قيام دولة إسرائيل التي تبوأت مقعدها في الأمم المتحدة بصفتها العضو 59 فيها؟!
لماذا نتغاضى عن حاضرنا ومستقبلنا، وما يحيط بنا من أخطار، ونحارب أي فكرة توصلنا إلى التضامن العربي والإسلامي، ولم نعد نشعر بالمسؤولية القومية بعد التنازل عن حقوقنا العربية المسلوبة ، وتقزم دورنا وحجمنا، بل آمالنا، حتى بتنا، على حد قول محمد حسنين هيكل، لا نخوض معاركنا إلا ونحن نيام، ولا نحقق النصر إلا في الأحلام، في مقابل اشتعال الخلافات في فرعيات الفرعيات، وفي أصغر الأشياء، وهو خلاف متجذر دفع المتنبي إلى أن يثير تساؤلاً لم يحرك فينا ساكناً منذ أحد عشر قرناً:
أغايةُ الدِّينِ أن تُحْفوا شواربكم
يا أمةً ضحكتْ من جهلها الأمم؟!
لماذا لم نسأل أنفسنا ما الذي أوصلنا إلى هذا الوضع المزري من الوهن والتخلف والتشرذم، حتى باتت حصوننا مهددة من الداخل أكثر من الخارج؟!
متى سنصحو لهذه المؤامرات ونلملم مآسينا ومصائبنا، ونقف صفاً واحداً وقلباً واحداً وننبذ الخلافات لمواجهة هذه المخاطر المحدقة بنا، كي نعيد مجدنا التليد، حيث كنا سادة الدنيا وخير أمة أخرجت للناس عندما كنا مؤمنين ومتحابين تحت راية العروبة والإسلام… فماذا حدث؟!
وأمام تلك التساؤلات المريرة تبرز تساؤلات تهوّن مرارة الأولى، وتنقلنا من ظلمة الخذلان إلى عزة الشرف: ما سر تلك القوة التي يتمتع بها أهلنا هناك في فلسطين؟ كيف يقفون هكذا أمام أحدث أسلحة توصل إليها العلم الحديث وتزود بها الكيان المحتل؟ كيف يقف طفل لمّا يتجاوز التاسعة بحجارته أمام جندي ببنادقه فيخاف الجندي ويهرب من أمامه؟ كيف تستقبل الأمهات نبأ وفاة الشهداء بكل هذا الصبر والثبات؟ كيف تتحول مصاصات الأطفال سكاكين تطعن الغزاة وتزيل النوم من عيونهم؟!
فتحية إجلال وإكبار لسكان حي الشيخ جراح وأطفالهم الذين يقفون بكل شجاعة وبسالة أمام المستبدين، تحية لأرواح الشهداء الذين بذلوا دماءهم من أجل كرامة وعزة العرب والمسلمين، تحية إجلال وإكبار لرجال المقاومة الشرفاء في كل مكان الذين أثبتوا للعالم أن صاحب الحق هو الأقوى مهما بلغت قوة المغتصب.
وتحية لك أيها الصبي الغزاوي الحيفاوي العكاوي، الذي أذهل العالم وجعله يتساءل كما تساءل نزار قباني:
«أي صبي هذا الخارج من رحم الأحزان؟
من هو هذا الولد… التبدأ في عينيه بدايات الأكوان؟
من هو هذا الولد الزارع قمح الثورة في كل مكان؟».
تحية لك أيها الصبي، وتحية لكل الأطفال الرجال الذين يرسمون بأناملهم خريطة الكرامة، ويبعثون ما مات في أمتهم من معاني الكفاح والوحدة والإيمان.