نافورة الحصان المجنّح
النشرة الدولية –
الحرة –
تغرقني المياه وصولاً إلى أعلى السُّرة، يطفو رأسي، ورئتاي في الطرف الجاف صعوداً. يتدفق “سيلان” أشبه بالحمم البركانية من أنفي وأذنيّ كـ نافورة “هيبوكرين”. البرودة في النصف السفلي من جسدي لا تُحتمل، عند الخاصرة تحديداً. النصف الأعلى بلا أذرع. يتلاشى شعور الذعر حين أتلمس بمساعدة ما يشبه الأجنحة (أو هكذا تمنيت) شقين محفورين أسفل كتفيّ من الخلف، وكأني لوهلة تحولت إلى “بيجاسوس”.. استيقظ وأمسك هاتفي واكتب : “نافورة هيبوكرين”. لا شيء في العربية.
أقنع نفسي بأن الحلم من تكوين “خيالاتي” الخاصة، لا بسبب البحث الذي كتبته من ثلاثين صفحة لصف تاريخ الفن عن لوحات لـ “فيتوري كارباتشيو” الذي طاردني على مدى الأشهر الـ4 الماضية، كما كانت محاكم التفتيش في العصور الوسطى تطارد وتصطاد “الساحرات”، الفارق هنا بأني مشعوذة نفسي فقط، ألقي على “انعكاسي” التعويذات من هنا وهناك، استعير من تعويذات أمي الخاصة بالحماية من الشياطين والوقوع في الآثام والمجون؛ لم تمنعني ولا تعويذة منها من الوقوع، على العكس تماماً، رضات موزعة على أكواعي وركبتي دليلٌ على ذلك. أتلوها في رأسي على سبيل العادة وميلي إلى تفكيك الكلمات، محاولةً الوصول إلى كيفية تركيبها/ ترتيبها وطريقة لفظها. مشعوذة انعكاسي، أخفي كرتي الزجاجية، ومكنستي تحت السرير لتعينني على الهروب منه ومن الأجساد فوقه، عند الشعور بطرف الحافة، حافة الوقوع داخل رأس أحدهم.
مشعوذة نفسي، اتجرع السم لوحدي طحيناً مسحوقاً ناصع البياض، وأدع الشمس تحرقني كما تشاء، في محاولة مني ومنها التغلب على بياض طبقات الجلد العليا، المصابة عميقاً بخوف الترهل والتجاعيد والشيخوخة وديدان الأرض.
ثلاثون صفحة، معدلة عشرات المرات، والتي بالمناسبة سببت حنق البروفيسور بشكل لا أفهم حدته، متهماً كتاباتي “بالطموح النرجسي الذي لن يصلني إلى مكان إن ما وضعت آرائي الشخصية بجانب من يسبقني خبرة نقدية ومكانة أكاديمية عليا في تاريخ الفن”، مختصراً الطريق بأنه سيمنحني (على مضض) العبور إلى الصفوف التالية لأنه ضجر من الأخذ والرد المتواصل، واقتراح التعديلات التي تقابل بالتجاهل من قبلي، مسببة تعكير صفو عملية ترتيب حقيبته، في طريقه لقضاء عطلة الفصل في أحد شواطئ إسبانيا أو الكناري. لا أعلم.
كسلاً، لم أدافع عن نفسي مكتفية بتمنيات قلبية ظاهرية بقضاء عطلة جميلة له، وشكره على الملاحظات التي سأضعها في الحسبان المرات المقبلة، عندما أعود مرغمةَ على حضور ما تبقى من دروسه، متجنبة تماماً الخوض في أن اللوحة الوحيدة التي أثارت انتباهي ودهشتي من بين لوحات “كارباتشيو” ودعمت نرجسيتي تجاه اللاجدوى من الجدية بأي سياق من سياقات الحياة، أو الخوف من تحدي الآلهة المعنوية والمادية، المرئية وغير المرئية، أضعافاً مضاعفة، هي لوحة “رأس ميدوسا” القابع في منتصف الدرع الواقي الذي استخدمه “أثينا” فيما بعد لمحاربة أعدائها.
ميدوسا ورأسها المحاط بشعر لا يتساقط، حيّ، لا يُهذّب، منتهي برؤوس أفاعي بألسنة مميتة، ملتفة بأجساد بعضها البعض بوضعية الانقضاض، محطمة هالة الهشاشة المحيطة بشعر الرأس وقشرته الرقيقة، مكملة ومتسقة مع عيونها الذاهلة، وفمها الفارغ دخولاً إلى الخواء الدامس، نازفاً في نهايته بقايا أشلاء عنقها.
حسناً، اعتذر بروفيسور، ميدوسا الفانية تحدت الآلهة المخلدة وأنا وضعت جملة واحدة من وجهة نظر شخصية أمام مجلدات وآراء آلهة النقد الفني والتاريخي، نعم استحق أن تلتهمني الثعبان حيّة.
لنعيد ترتيب الأحداث، يقال إن ميدوسا (الإلهة الفانية) كانت واحدة من حارسات وكاهنات معبد أثينا، عاقبتها الأخيرة إثر تحدي ميدوسا القوانين المقدسة ومقارنة نفسها بالآلهة الخالدة، لكن فعلها المرتبط بتدنيس المعبد، بسبب قبولها الممارسة الجنسية، مرغمة من قبل “بوسيدون” إله المياه ومفجر الينابيع، حال إلى غضب أثينا محولةً شعرها إلى ثعابين سامة وعيون ذاهلة قادرة على تحجير من ينظر باتجاهها، هي وأخواتها، مما اضطرها إلى العزلة عن العالم والاختباء إلى ما وراء حافة العالم حيث لا سطوع للشمس ولا ضوء للقمر يثقب السماء فوقها.
هذا لم يمنع قاطع رأسها لاحقا “بيرسيوس” بالوصول إليها بمساعدة ساحرات البحر اللواتي أعانته على تفادي الإصابة بالتحجر، وذلك بارتداء الحذاء الطائر وخوذة تمنحه الاختفاء. عندما وصل وضع درع أثينا ذو السطح العاكس لكي يتفادى أي اتصال بصري مع عيون ميدوسا، مباغتاً قواها بضربة واحدة من سيفه على رقبتها فاصلاً رأسها عن جسدها مسبباً أنهاراً من الدماء. جسدها الذي خرج منه “كرياسور” الخنزير المحارب، يعني اسمه النصل أو السيف الذهبي، يعتبر شخصية ثانوية فيما يخص تأثيره ووجوده داخل أحداث الأساطير في كثير من السرديات اللاحقة، على عكس “بيجاسوس” الحصان المجنح الذي انبثق من دماء “ميدوسا” وجرح سيف “بيرسيوس” وهنا يتضح بأن موتها غير عدمي بل يحتوي على عناصر مفعمة بالحياة. رأسها الذي نُذر ليبقى معلقاً على درع “أثينا”، مستخدمة الأخيرة قوة عيون “ميدوسا” في حماية نفسها وتحجير أعدائها بهما، مما يُحيل “ميدوسا” من كونها مركز الشر واللعنات في الظاهر، إلى الموقع الحقيقي لها، أي الضحية، من قبل عدّة آلهة، كل منهم أراد إثبات قوته بسياق بطولي بحت.
التحجير
أفكر بـ”ميدوسا” واتأمل رأسها، واسأل نفسي “لماذا أصيبت بلعنة تحجير من يحدق في عينيها تحديداً؟”.. أعني، فعل التحديق في الأشياء، الأشخاص، المرآة. فعل قيم بأعلى حالاته صعوداً، كما في أشد وأحلك حالاته هبوطاً. الانتقام يحتاج إلى تحديق مكثف وإشباع بصري تماماً كالحب والتلذذ والتواصل وتفحص الأجساد قبل لمسها.
وكأن العقاب يكون مضاعفاً عندما تفقد الأشياء قدرتها على النبض. الشلل التام. أو الراحة النفسية في المقابل المعاكس، أي الزوال التام لها.
أشياء ومفاهيم وأشخاص، كلها أمامك لكن لا تستطيع التواصل معها أو الشعور بها، حجارة مصمتة. أو تراها مكثفة وخانقة، مسببة ألم شديد. مقتحمة مساحة الذات، فتفضل القفز فوقها، إهمالها وكأنها صخور، كآلية حماية أو فقط تمرن على تجاهل ما هو فاني ومتحول، تخفيفاً لهول الفقد.
ماذا نتجاهل؟ كيف نمرن أنفسنا على تحجير ما لا نستطيع محاربته؟ تحجير ما يؤرقنا؟ صدمات ورضوض نفسية. حساب بنكي فارغ. فواتير. علاقات عاطفية مجهدة. واجبات عائلية. كوارث طبيعية. حروب، تطهير عرقي. جميعها تنتظر حلول الأشخاص البالغين، الناضجين. كيف؟ صعب جداً، التحجير والإهمال إذاً. الاحتماء في المراوغات كطريقة من طرق النجاة.
في خضم البحث عن نصوص قصيرة، تعثرت مرة على كنز من القصص القصيرة المثيرة للاهتمام في أسلوبها السردي، لـ”هيلين شولمان”. تصف شولمان بما معناه مأساة الانفصال أو فقدان الاتصال والتباعد عن العاطفية الحقيقية. التخدير الجسدي بأشياء آنية، نفعل تحجيرها وقتما نشاء إما عن طريق الشلل الذاتي وإظهار فقدان حركته علناً أو عن طريق شل حركات ونبض الآخرين، مما يحيل إلى عالم مليء بالصخور والحجارة، نتقاذف بعضنا البعض في محاولة لفك اللعنة وتحرير “أرواحنا” إن وجدت.
تضيف في بعض نصوصها أثر التحديق والرؤية “الحقيقة”، ومفهوم استحالة التواصل مع العالم الخارجي بلا رؤية عميقة، الأمر في غاية الصعوبة في ظل التشويش والسرعة وكثافة ما نتلقى في العصر الحالي. الرؤية هنا ليس مقتصرة على البصر وحسب بل أيضاً تلمس العالم من حولنا والتهامه والشعور بما فيه إلى أقصاه، أمر مجهد لكن فعال لمنع أي انقطاع بين الروح والجسد والعالم المحيط. تفادياً لأي حرمان نفسي وعاطفي يقودنا إلى التعايش مع الخدر، المشاهدة من دون رؤية. المراقبة من دون مشاركة، فقط لأنه المكان الأمثل والأكثر أماناً وألفة للإبقاء على وضعية أجسادنا “حيّة” قدر المستطاع.