“دينا مطر” تشكّل من عناصر لوحاتها المتداخلة تطريزا فلسطينيا موسّعا يخرج عن مُباشرته الشكلية ليكون وطنا محاذيا
النشرة الدولية –
ثمة فنانون يستطيعون الرسم في أوج الأزمات التي تعيشها بلدانهم ويبدعون أعمالا معبّرة جدا عن واقع الحال وفقا لشخصياتهم، في حين لا يستطيع البعض الآخر ذلك. والمتطلع إلى أعمال الفنانة الفلسطينية دينا مطر السابقة والمُتمعن اليوم في أحوالها سيتأكّد بأنها تنتمي إلى المجموعة الثانية من الفنانين.
كتبت منذ بضعة أيام الفنانة التشكيلية الفلسطينية دينا مطر على صفحتها الفيسبوكية كلمات عبّرت من خلالها عن رغبتها في الرسم واستحالته في الوقت الحاضر، قائلة “اليوم كان يوما مثل أي يوم متوتّر من أيام الحرب، أتتبّع فيه أخبار غزة وفلسطين. أشعر برغبة عارمة في الرسم، ولكنني لا أستطيع الاقتراب، أنتظر شيئا ما، ولكن لا أعرف ما هو؟”
أغلب الظن أن مطر الصبية الغزاوية التي تُصبح عاجزة عن التعبير الفني عندما يحلّ الموت بأشكاله السافرة والمُطلقة كما حل اليوم في وطنها فلسطين، ستعود إلى الرسم في اللحظة التي تشعر فيها بأن وطأة القهر خفتت ولو قليلا وأصبحت قادرة من جديد أن تُرضخه عبر إلباسه أثواب وزخارف ومفارش ملوّنة تتحدّث وتخبّر عنه، أي عن القهر، ولكن من خلال “موشور” ضوء (هو فنّها) شذّبته لكي يعكس إلى الخارج كل احتمالات ألوان قوس القزح، لتأكّد بطريقة غير مباشرة بأنه في نهاية أي مطاف لن يصحّ إلاّ الصحيح.
لم تسلم مطر رغم صغر سنها وجمالية أعمالها التعبيرية من انتقاد بعض العناصر المُشكّلة للوحاتها. على سبيل المثال حدث الاستهزاء بـ”دبدوب” صغير حمله طفل في إحدى لوحاتها ووجود سلة فاكهة رسمتها الفنانة، كما رسمت باقي مفرداتها الفنية، بالأسلوب الفطري والمُباشر الذي برعت فيه واستطاعت عبره أن تعبّر عن أكثر اللحظات الواقعية (الداخلية والخارجية) في حياة الفلسطيني.
غالبا ما أتت هذه الانتقادات على لسان “مثقفين” ليسوا على اتصال مع المخزون الفلسطيني الهائل الذي يعجّ بتفاصيل وأشياء “عادية جدا” تم تحويلها أو “أدلجتها” تلقائيا في وجدان الفنان ووعيه، فباتت إشارات لحياة مسلوبة أو لحلم لا زال ينشد التحقيق أو لذكرى مفقودات اختصرت في طياتها أمسية عائلية أو مشوارا مع الأصحاب أو غفوة طفل لم تُسلب منه بعد ألعابه وأحلامه.
وفي هذا الإطار تحدّثت الفنانة أكثر من مرة حول المخزون الذي تستحضر منه مفرداتها الفنية قائلة “أفكار لوحاتي والضجيج الذي في داخلها ليسا من وحي الخيال أو الصدفة، إنما يُستمدّان من واقع حياتي: من المخيم، ومن الشوارع الضيقة، ومن البيت، ومن الجيران، ومن كّل ما حولي، حيث غزة حاضرة في جميعها، وتحديدا البحر والصيد، فرسمت جدّي صانع السفن، وحياتنا وطفولتنا بجانب البحر.. غزة هي البحر، بعيدا عن الحرب والدمار”.
تشحن الفنانة لوحاتها بتفاصيل من الموروث الفلسطيني وليس فقط من حياتها اليومية. وكل ما تعبّر عنه في أعمالها حتى وإن كان عن حمل السلاح ضد العدو أو عن حزن لا يُبارح صاحبه أو عن وحدة وانتظار طال أمده أو عن عمل شاق في الحقل، تحوّله مطر إلى عيد ولا تراه إلاّ من خلال عدستها الاحتفالية بمواقف الحياة.
مواقف لا تعدّها الفنانة أقل أهمية من غيرها، وهي حين تحضرها إلى قلب لوحاتها تصير رموزا تنقش نصها الملوّن بعناصر كالطيور والأزهار والأسماك والسجاد والأشجار والشموس والسماء الزرقاء الصافية والحجارة والبيوت الغزاوية المرصوصة رصا على بعضها، وألعاب الأطفال وغيرها من العناصر التي تجعلها وهّاجة.
أما صفة الوهج فقد تمكّنت مطر من إنجازها على عين المُشاهد عندما جعلت كل عناصر لوحاتها تتداخل لتشكّل ما يشبه التطريز الفلسطيني المتوسّع الذي خرج عن مُباشرته الشكلية ليكون وطنا محاذيا، ليس هو إلاّ “فكرة” فلسطين التي تأبى إلاّ أن تتّحد مع واقع فلسطيني لا زال في قلب المعاناة.
تُعدّ أعمال الفنانة الفلسطينية الشابة من الأعمال لتي لم تبارح الأجواء التي كرّسها رواد الفن الفلسطيني، حيث حضور المرأة هو حضور بارز وصل إلى حد الجعل منها أيقونة ورمزا للوطن.
يعتبر البعض، لاسيما بعض “النسويين” أن على الفن الفلسطيني أن يتحرّر من صورة المرأة “النمطية” التي تلبس اللباس التقليدي وتعبّر عن كل أشكال البطولة، لتكون محور احترام مجتمعها. ويبرّر هؤلاء أن وضع المرأة في الواقع ليس كذلك دائما، وهي تتعرّض في أحيان كثيرة إلى التعنيف، أو لا تنطبق عليها المواصفات الخارقة أو ما يُمكن اعتباره مواصفات حسنة.
ولهؤلاء يمكن القول لهم إن الفن المُلتزم غالبا ما يكون مشروعا اجتماعيا يُرجى منه أن يتحقّق. وأن اللوحات التي تحتفي بالمرأة الفلسطينية بلباسها الفلسطيني تصرّ على التمسّك بكل ما هو جميل وواقعي في عين العالم كله.
إنها لوحات غير معنية بفكرة “العصرنة” التي يجيء تحت لوائها التخلي عن الحلم وعن العاطفة الإيجابية التي تغذّي النفوس وتمدّها بفرح يوم تشتد قسوة حاضره.
وأخيرا نقول، ثمة ما يكفي وأكثر من الأعمال الفنية المهمة وأكثر ممّا يدور حول المرأة كضحية لمجتمعاتها، وهذه لا تجعل المرأة لا في فلسطين ولا في غير فلسطين “امرأة” أكثر، بل تجعل منها اختصارا كئيبا لواقع عليه أن يتغيّر، هو ليس المرأة بثوبها الجامع لكل معاني الحب بمعناه المطلق. والفنانة دينا مطر من مواليد مخيم البريج بقطاع غزة سنة 1985. تخرّجت عام 2007 من جامعة الأقصى، حاصلة على شهادة بكالوريوس فنون تخصّص في التربية الفنية.
تم اختيارها في العام 2012 للإقامة الفنية في مدينة الفنون الدولية في باريس، وعُرضت أعمالها المشغولة بمادة الأكريليك في العديد من المعارض في فلسطين وفي بريطانيا والأردن وفرنسا وسويسرا والولايات المتحدة والأرجنتين ودبي وأبوظبي وقطر وإيرلندا. وهي عضو مؤسّس لمجموعة التقاء للفن المعاصر في قطاع غزة.
ومن معارضها الفنية التي تميّزت بحضور طاغ للمرأة بمختلف مراحلها “تحيا النساء” و“لحن الزهور” و“سوق الخميس” و“غزة هي البحر” و“المطر الأول” و“غدا سوف نحب الحياة”.