حل عربي لأزمة غزة؟.. للولايات المتحدة مواقف ثابتة وأخرى متحركة حيال إسرائيل والفلسطينيين
بقلم: د. وليد فارس

* الأمين العام للمجموعة الأطلسية النيابية

النشرة الدولية –

بعد أيام طويلة من المصادمات في القدس، بسبب إخلاءات إسرائيلية لعائلات فلسطينية تحمل الجنسية الإسرائيلية، تبعتها صدامات في عدة مدن عربية – إسرائيلية، ومجمعات فلسطينية في الضفة الغربية، تضامناً مع المقدسيين العرب، وتدخل المستوطنين في العراك الشارعي، تدخلت حماس من غزة وأطلقت صواريخها على إسرائيل فغيّرت مسار المواجهة، من مجتمع مدني عربي داخل إسرائيل ومدنيين فلسطينيين يتواجهون مع السلطات الإسرائيلية وبعض المدنيين، وهذا ملف لا يقود إلا إلى العودة لمفاوضات ما، يحتل الفلسطينيون موقع المستضعف إلى مكان آخر.

ساحة أخرى فجرتها حماس من دون تفويض فلسطيني أو عربي، أي حرب صواريخ ومسيرات تستهدف إسرائيل، وتجلب موجات من القصف الجوي الإسرائيلي بالقاذفات والدرونات. النتيجة؟ قتلى بالمئات في غزة، والعشرات داخل إسرائيل. ودمار كبير في الحزام الفلسطيني الجنوبي، في المؤسسات والمباني.

وماذا يأتي بعد ذلك؟ دعوات “للتهدئة” طبعاً. وبعدها وقف إطلاق نار تنظمه مصر كالعادة، لأنها الدولة العربية الوحيدة على حدود غزة وقيادتها خير حكم بين الأطراف، ولها وصول عميق في واشنطن.

أما بعد تثبيت وقف القصف المتبادل بين حماس وإسرائيل، فتبدأ نغمة المساعدات، والكلام الجميل عن “ضرورة مفاوضات جدية الآن كي لا تُعاد الكرة”. ويطبّل الطرفان لانتصاراتهما، العسكرية والسياسية، ويشكران من ساعدهما، أكان إيران أو أميركا.

أما بعد، فماذا سيحصل؟ إن لم يبدأ حل حقيقي ثابتا وواضح للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، أو ينعم الفلسطينيون بدولة يديرها زعماء مسؤولون وغير متطرفين، ومدعومة من منظومة إقليمية قادرة، ومجتمع دولي مهتم، وفي المقابل يتبدد قلق المدنيين الإسرائيليين من الأخطار الأمنية، والأهم أن ينكب الجميع، فلسطينيون وإسرائيليون وعرب على التنمية والازدهار لمجتمعاتهم، فان ما بعد “التهدئة” ستأتي عاصفة أخرى، وأخرى إلى ما لا نهاية. هذا ما رأيناه في 2014 وسنوات سابقة.

ألغام السلام

مما هو واضح أن أي صراع أثني قومي جغرافي، والمواجهة الفلسطينية الإسرائيلية ليست وحيدة في العالم، ما لم يأت بحل جذري ودائم لها ستستمر، والأخطر أن قوى كثيرة وخطيرة ستستعمل هكذا صراعات وتجّيرها لمصالحها وتدفعها باتجاهات نقيضة للحلول المرجوة، وهذا ما حدث ويحدث للمسألة الفلسطينية، فهناك ملف قومي لشعب يحاول الوصول إلى دولته فلسطين، وثمة نظام يعمل على الإمساك بهذا الملف، ويتجه به كسلاح لإقامة سبطرة إقليمية، ونعني به، نظام الجمهورية الإسلامية الخمينية.

فالفلسطينيون عبر سلطتهم الوطنية فصائلهم يجهدون للتوصل إلى أهداف وطنية معينة، وهي إقامة دولة على أراضي ما قبل حرب1967 أي كامل الضفة وقطاع غزة، وكامل القدس الشرقية.

أما الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة فاختلفت حول المساحة التي يجب التخلي عنها. حكومات اليسار أرادت انسحاباً أوسع من الضفة.

حكومات الليكود تمسكت بجزء أكبر من الضفة، وأصرت على الجولان وكل القدس، ولكن كل أحزاب إسرائيل اتفقوا على أن تكون غزة بكاملها فلسطينية، واستمر الخلاف لمدة 30 عاماً، على الرغم من اتفاقات مدريد وكامب دايفيد وغيرها.

ولكن الطرفين حسما أهم المبادئ، ألا وهو أن الحل بدولتين، إسرائيل وفلسطين.

وهذا ما حسمه المجتمع الدولي أيضاً، إلا أن قوى رفضية بزغت لدى الجانبين، في إسرائيل بعض القوى القومية المتشددة تريد كل الضفة، ولا تسويات في القدس، أما في الجانب الفلسطيني فصعدت حماس والجهاد الإسلامي وفصائل راديكالية أخرى، ترفض الحل على أساس دولتين، وتسعى إلى قيام دولة إسلاموية واحدة من النهر إلى البحر، كجزء من “الخلافة الآتية”.

اليمين القومي الإسرائيلي له تأثير على المحافظين، بما فيه الليكود، ولديه القدرة على الضغط على دولة إسرائيل لتتمسك بإبقاء مناطق ديمغرافية داخل الضفة وتدعم تنميتها، مما يثير رفض الفريق الفلسطيني بأكمله. إذاً بالتلخيص الشديد، الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني، وقبله الحروب العربية الإسرائيلية كانت “حرب حدود”.

وجاءت معاهدات السلام والاتفاقات لتنظم الخروج من انعدام الحدود الواضحة إلى تحديدها تدريجياً، فالعرب ومنظمة التحرير اعترفوا بحدود 67، لكنهم رفضوا التنازل عن أي مساحة إضافية. إسرائيل اعترفت بأن غزة هي فلسطينية كاملاً، لكنها قررت أن بعض أراضي الضفة والجولان والقدس الشرقية هي إسرائيلية.

إلا أن انحسار “حرب الحدود” بين إسرائيل والعرب، والانتقال إلى “تفاوض الحدود” أي معركة سياسية، ديبلوماسية، قانونية، بين الأطراف لإنهاء الصراع سلمياً، فسح المجال لثغرة أمام “حرب وجود” جديدة أتت من أطراف طرفي الصراع، أي من أجزاء من اليمين القومي الإسرائيلي، ومن المعسكر الإسلاموي الراديكالي، أو ما يعرف “بالجهادي” في الغرب.

“حرب وجود”

ثمة جزء من الحركة الاستيطانية اليهودية تعتبر أن إسرائيل التاريخية يجب أن تعود على معظم أراضي الضفة تحت اسم يهودا والسامرة، إلا أن أكثرية الأحزاب السياسية الإسرائيلية من يسار ويمين تعتبر أن هناك صفقة لا بد من أن تتم للوصول إلى سلام دائم، أي أن ضم كل الضفة أو معظمها مستحيل لأسباب ديمغرافية.

لذا فأكثرية إسرائيل ضد الضم الشامل، ومع تقسيم الضفة، إلا أن أي ضم لأراض في الضفة والجزء العربي من القدس، يعتبره العديد من الفلسطينيين إلغاء عملياً لوجود “دولة الفلسطينية”. هذا الخلاف لا يزال قائماً بين الطرفين منذ حرب 1967، على الرغم من صفقات سلام عدة.

وهكذا “صراع اثني” Ethnic Conflict حول أراض قومية، ليس أول ولا آخر صراع من هذا النوع. فمن إيرلندا إلى كشمير إلى نيجيريا وكردستان وناغورنو قره باغ والباسك والبربر وأوكرانيا وغيرها، العالم يكتظ بصراعات مثيلة. الصدام الإسرائيلي – الفلسطيني هو كغيره حول من يسيطر على أية أراض وتحت أية سلطة.

لكن حركة حماس التي تسيطر على المنطقة الأكثر قوة وكثافة، ولها ساحل بحري على المتوسط، أتت بمشكلة تتعدى التناكف على مساحة الأراضي بين إسرائيل والفلسطينيين، فهي أتت بعامل أكبر وأخطر من حدود حل الدولتين، وهو حرب على كامل “الكيان الآخر”.

فعلى عكس السلطة الفلسطينية ومعظم الدول العربية، ليس لحماس حد أدنى تقبل به من سيادة على الأراضي المتنازع عليها مع إسرائيل، لأنها تريد “فكفكة” الدولة الإسرائيلية وترحيل شعبها، وإقامة جزء من الخلافة على كل الأراضي، وكأن الايرلنديين قالوا بأنهم لن يكتفوا بتحرير إيرلندا، بل “بفكفكة” إنجلترا.

أو إذا طالب جنوب السودان بابتلاع كل السودان، أو إذا طالب الأكراد بإنهاء كل العراق أو سوريا، أو الحركة الجزائرية بإلغاء فرنسا، وكثير من الأمثلة الأخرى.

هكذا أجندة تضرب فكرة الدولتين، وتلغي الحل السلمي، بل تؤثر في الرأي العام العالمي سلباً. هكذا موقف لا يمثل الموقف التاريخي الفلسطيني لدولة بحدود 67، ولا الموقف العربي الرسمي، لا الذين وقعوا اتفاقات ولا الذين لم يوقعوا. إن المجتمع الدولي لن يقبل بحلول راديكالية لي من الطرفين. الحل كان سيبقى “دولتين” عبر المفاوضات وليس الحروب، ولكن حماس أضافت ثلاث مشكلات إضافية على موقفها من رفض السلام.

مشروع إقليمي سلطوي

إضافة إلى موقفها الذي ينسف الحل السلمي للفلسطينيين، ويسقط ورقة التفاوض من العرب، أقحمت حماس نفسها وغزة في ثلاثة محاور.

الأول هو الانغماس بالمشروع الإخواني الهادف إلى إقامة “خلافة جيو سياسية” هدفه إسقاط الحكومات العربية المعتدلة من مصر إلى السعودية فالإمارات وغيرها، واستبدالها “بأنظمة حماساتية” في طول المنطقة وعرضها.

المحور الثاني هو تحالف علني وعملاني بين حماس والنظام الإيراني وحزب الله والحوثيين والميليشيات الإيرانية في المنطقة، بالسلاح والعتاد والتدريب، وهذا يضع حماس في قلب محورين إقليميين معادين للتحالف العربي ومعسكر الاعتدال.

المحور الثالث هو الانقضاض الحماسي على السلطة الفلسطينية في غزة، منذ انقلاب 2007 واجتذاذ حركة فتح الليبراليين من القطاع بشكل دموي. وبغض النظر عن الخطاب الغفور الذي يصدر عن حكومات الرئيس عباس تجاه الانقلابيين، فالواضح أن حلفاء ايران والإخوان لن يقبلوا بعودة السلطة الفلسطينية والأحزاب الأخرى إلى قطاع غزة، من دون الطاعة لحماس والجهاد الإسلامي والولاء لمشاريعهم في المنطقة.

والسؤال الكبير هو: كيف تتعاطى الولايات المتحدة، بخاصة هذه الإدارة، مع حماس، وكيف سيتحرك الفلسطينيون والعرب حيال الخيار التي تضعه حماس أمامهم حيال مواجهات غزة؟

موقف واشنطن

كما أسلفنا وفي مقالات سابقة، للولايات المتحدة مواقف ثابتة وأخرى متحركة حيال إسرائيل والفلسطينيين، لا بد من فهمها جيداً لفهم المعادلات، سواء أكانت على ذوق مختلف الأطراف أو لم تكن.

لليمين واليسار في أميركا وجهات نظر مختلفة تجاه هذا الصراع، ولكن هناك ثوابت. مستقبل الضفة والقدس قابل للنقاش على الرغم من كل التطورات، لكن ما هو غير قابل للنقاش أميركياً هو وجود إسرائيل ودولة للفلسطينيين،

فواشنطن لن تقبل بتنظيم مسلح يعمل على تدمير الدولة اليهودية، ولن تقبل بأن يكون الحل للصراع من دون دولة للفلسطينيين، لذلك فأميركا ترفض حماس وتعتبرها إرهابية تسعى إلى محرقة جديدة وتعتبر السلطة الفلسطينية الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني، بغض النظر عن الفساد، وضرورة الإصلاحات العميقة.

إدارة بوش كانت منهمكة بالحرب على الإرهاب. إدارة أوباما وعدت بحل متكامل ومتوازن، لكنها انهمكت “بالربيع العربي” بالشراكة مع الإخوان.

إدارة ترمب أعطت إسرائيل ما طلبته، وانتظرت أن تعطي هذه الأخيرة تنازلات للفلسطينيين في الفترة الرئاسية الثانية، عبر مظلة “معاهدات إبراهيم”.

لكنها خسرت الانتخابات، فجاءت إدارة بايدن التي تريد العودة إلى الاتفاق النووي مع ايران، وبالتالي لا تريد مجابهات تضيع فرص العودة. بايدن غير قادر إلا أن يلتزم بحماية إسرائيل والاتفاق النووي، ومبدأ الدولتين اليهودية والعربية جنباً إلى جنب.

من هذه الدوامة الدائرية، تبرز حماس كالرقم الصعب ومن ورائها ايران، فهي التي تملك المبادرة في إشعال جبهة غزة عندما تبغي فترد إسرائيل، وتلجمها أميركا، وتنتهي الجولة بانتصار لحماس، فتلتهم التمثيل الفلسطيني وتقدمه ورقة إضافية لطهران، لتصرفه على مائدة فيينا وكأن الجمهورية الخمينية تقول لبايدن، ارفع العقوبات ووقع على الاتفاق، أو سأحرق السم الإبراهيمي أكثر.

العرب

الخاسرون من جولات العنف في غزة هي الدول العربية التي تواجه إيران والإرهابيين في طول وعرض المنطقة، ومجتمعات الشرق الأوسط التي تحاول التحرر من الميليشيات الإيرانية والتكفيرية، إضافة إلى الفلسطينيين الذي يسعون لانتزاع كيان لهم، وينتهون بحروب لا متناهية لا تؤدي إلى أي أمل.

وكذلك أميركا التي تخسر ورقة التقدم باتجاه الاستقرار وتوسيع رقعة المعاهدات السلمية، لذا فانه يبدو أن اللاعب الأقدر ليخرج غزة من دائرة العنف إلى دائرة السلم والاستقرار، ومنها إلى واقع الوحدة الفلسطينية وقيام جمهورية برلمانية ليبرالية للشعب الفلسطيني بأوسع رقعة ممكنة، هو في هذه المرحلة التحالف العربي.

إنقاذ عربي لغزة

المطلوب قرار تاريخي شجاع للدول العربية الكبرى، يشارك به فلسطينيو الاعتدال، من أجل إنقاذ شعب غزة ومستقبلها، وإعادة توحيد كياني فلسطين، في الضفة والقطاع في حكومة واحدة، والتقدم بقوة إلى محادثات السلام تحت مظلة عربية قادرة، والخروج بحل يجرف الحروب ويأتي بفلسطين تتعايش ما بين العرب وإسرائيل، وتدخل حلبة الازدهار بعد عقود من التعاسة والبؤس.

قد يتطلب ذلك تشكيل قوة عربية مشتركة، وفي وسطها نواة جيش وطني فلسطيني، ينظمه ويجهزه التحالف، لتنتشر في غزة لتؤمن المدنيين وتنهي أي عنف وأي قصف أو عمليات عسكرية من أي طرف، ويوازي ذلك مظلة عربية لتوحيد المؤسسات الفلسطينية، وإنجاز سلم عادل مع إسرائيل، والخروج بفلسطين شابة حديثة ديمقراطية، وعندها يتم إدخال الدولة الجديدة إلى عصر الازدهار والتقدم الاقتصادي.

لن ينقذ غزة من الحروب إلا مبادرة من التحالف العربي، فالذين نجحوا في إنتاج وقف لإطلاق النار قادرون في أن يعيدوا الأمل والفرح لأطفال غزة والمنطقة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button