حنان بيروتي وأقصوصة الرغبات المحبطة
النشرة الدولية –
د. إبراهيم خليل
في السنوات الأخيرة تكرر مصرع الكثير من المهاجرين الشرعيين، وغير الشرعيين، بوساطة القوارب عبر البحر من الجنوب إلى الشمال، بحثا عن المكان الآمن، أو عن الرزق المتاح بعد معاناة قاسية في بلاد كل ما فيها قاحلٌ، ماحلٌ، علاوة على ما فيها من تعسف، وبطش، وتشبيح. وفي المجموعة القصصية الأخيرة لحنان بيروتي الموسومة بعنوان (ليت للبحر لسانا يحكي*) قصة تذكرنا بالكثير الجم من هذه الوقائع، التي ظلت لأيام موضوعا مثيرًا تتناقله وكالات الأنباء، والقنوات الفضائية، فضلا عن شبكات المعلومات، والمواقع الإلكترونية. فالقصة التي اتخذت منها المؤلفة عنوانا للمجموعة توحي بهذه الظلال المأساوية مباشرة عندما تذكر على لسان الراوي (السارد) « قاربا متخمًا بالأجساد المتراصة حتى ليشبه علبة سردين. وهو – أي الراوي- ومن معه، ينظرون بعيون محدقة نحو المجهول « (ص13) .
ومع أن السارد مضطربٌ بسبب ما هو فيه من ظروف حرجة، إلا أنه يجد وقتا للتذكر. يتذكر الجدة، ويتذكر الأب، الذي اجتاز البحر كغيره، متنقلا من عالمنا إلى عالم الآخرين، هاربا من الفقر المدقع، والإفلاس الطاغي، متجنبا- كالكثيرين- الأحلام والكوابيس، ولكنه لم يعد، وظل مصيره متأرجحا بين المفقود، والغريق الذي ابتلعه البحر بعد أن انقلب القارب به، وبمن معه من المهاجرين. ويشير السارد إلى اختلاف الأخبار؛ فمنهم من يقول إنه نجا، والبعض يذكر أن البحر لفظ جثته بعد أيام من الغرق، وظلت مدة على الشاطئ تتناوشها جارحات الفلا . والجدة تحاول التخفيف من آلام السارد، وكذلك العمّة ماتيا، على الرغم من أنه ورث اليتمَ، والفقر، وهو يتذكر هذا بعد عشرين عاما من ولادته. يتذكر أيضا الأم التي عانت طوال تلك السنين من غياب الزوج، ومن الفقر. وهو مع ذلك لم يفقد الأمل، فقد سأل الجدة إنْ كانت تتوقع أن يجد أباه لو أنه اجتاز البحر إلى الشاطئ الآخر، وهل يمكنه أن يعرف مصيره.
يقع هذا السؤال على مسمعيْ الجدة وقوع الصواعق. فإذا حاول السفر بوساطة القوارب مهاجرًا غير شرعي، فإن هذا يعد في نظرها نذير كارثة لا تحتمل، ككارثة الأب حين غادر بالطريقة ذاتها قبل عشرين سنة. ولم يعد: « لا .. يا وليدي لا . ما تقتلني مرتين. « (ص17) كذلك الأم التي تعاني الوحدة لا تريد لابنها أن يغادر كأبيه، عبر البحر، فقلب الأم دليلها، وهي توشك أن ترى بعينيها نهاية المأساة التي تنتظر السارد، ولهذا تصكّ صدرها بقبضتي يديها مرتين، رافضة سفر الابن. ولكن السارد للأسف لا يصغي، لا لجدته، ولا لأمه، وهو الآن – في أثناء روايته للحدث- مع كثير ممَّن ضاق بهم المركب، وترنح، ولفظ البحر بعض جثث الغرقى على رمال الشاطئ، والسارد يتقيأ ماءً مالحا وسط خفقان القلب، وتسلّل الموت بطيئا إلى داخل النفس.
العوامل
وفي هذه القصة، على مستوى العوامل، أربع شخصيات؛ السارد الذي يرغب في الهجرة، وهو يروي ما وقع له وجرى في القارب. والجدة التي ضعف بصرها من كثرة البكاء على ابنها الذي غادر ولم يعد، ولا تعرف شيئا من أخباره التي انقطعت منذ عشرين عامًا ونيف. والزوجة التي تحيا هي الأخرى على ذكرى الزوج الذي هاجر عبر البحر، ولا يُعرف إن كان حيًا يرزق أم تناوشته جوارح السماء، ووحوش الفلا، كغيره ممن لفظ جثثهم البحر؟ فلكل منهم مآسيه مع البحر، ولكل منهم الشعور ذاته، وهو أن البحر يفترس المهاجرين الذين يغادرون ديارهم بحثا عن النجاة من الفقر فلا ينْجون. وها هو الابن يغادر هوالآخر على الرغم من أن الجدة تحاول نهيه عن السفر، وعلى الرغم من أن الأم تصكّ صدرها بقبضتي يديها الاثنتين محذرة من النهاية المفجعة المتوقَّعة، إلا أن الابن يغادر خارقا بذلك ما هو طبيعي، أيْ الإصغاء لنصح الشخصيتين الأخريين؛ الأم، والجدة، فضلا عن العمة ماتيا .
والمواقف المتباينة للشخوص أشاعت ضربًا من الحوار، وأتاحت للبطل الانفراد بالرأي، فهو يغادر على الرغم من ذلك كلّه. ويلاقي بسبب ذلك المصير الذي حُذر منه، وهو المصير نفسه الذي لقيه الأب. وقد عبرت الكاتبة عن هذا تعبيرا مباشرًا لا مواربة فيه، يقول السارد « أحاول أن أفتح عيني. ترشقني الشمس بشعاع يلسع عيني. أحس به يسلخ جلدي الممتزج بمُلوحة البحر. سكاكين ترجُّني. يا رب. أحاول القيام بحركة تدل على أنني حي. جسدي يُجرُّ على الرمل. دوارٌ قاتل. أتقيأ ماءً مالحا. قلبي يخفق. أواجه موتا يتسلل ببطء. « (ص18)
أي أنّ الكاتبة أدارتْ صراعا بين مواقف الأم والجدة والعمة مجتمعةً، وموقف السارد، الذي لم يسمع النصح. وهو في هذه الحال لا يملك ما يسمح له بوصف ما يجري، إذ هو في ما يشبه النزع الأخير. بيد أن الكاتبة بهذا تفصح عن وضعها السارد في موقف غرائبي. فكأنه ميّت فعلا ويذكر لنا ما أحس به وشعر، وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، مفارقا الحياة. وبذلك تكون الكاتبة قد مزجت بين واقعية الحدث، والنهاية الغرائبية فيها، ونحن نتوقع من هذا السارد ذكره بعض التفاصيل عن اللحظات الأخيرة من حياته، على الرغم من أن هذا ليس يسيرًا. ولا يتقبل القارئ وقوعه إلا بعد تردُّد، فالسارد مات – مثلما تذكر – ولكنه يروي بعض ما جرى على الرغم من أنه مات.
الزمن
وفي القصة حكاية قصيرة تتضمّن ثلاثة أبعاد في الزمن؛ الماضي الذي مرت عليه عشرون عامًا، والمتواليات السردية التي تستدعي هذا الماضي: سفر الأب مهاجرا إلى بلد أوروبي – مثلا- عبر البحر وما ترتب على ذلك من غيابه، وانقطاع أخباره، واختلاف الروايات عن مصيره، وعن عمله عتالا بأجور زهيدة. وعن البحر الذي لفظه على الضفة الأخرى، وفي مكان قصي، وهذا أحد الاحتمالات. والبعد الثاني، وهو ما قبل مغادرة الراوي (الابن) وهو يحاور جدته تارةً، وأمه تارة أخرى، وهما تنهيانه عن السفر، وعن المغادرة. فلا الجدة تتقبل فكرة الهجرة، أو أن تقتل مرة أخرى، ولا الأم ترتضي لابنها مصيرًا كمصير أبيه، لا سيما وهي تسمع ما يروى من قصص المهربين، ووعودهم الزائفة، وبروقها الخلَّب. وما تسمعه أيضا عن المهاجرين الذين يبيعون أنفسهم للسوق السوداء بلا ضمانات تحميهم، وهم بلا أسماء، وبلا هويات، وبلا ظهور يستندون إليها، فيكون المهاجر بالنسبة لأولئك الأوروبيين ورقة نقدية يتداولها أرباب العمل لا أكثر. ولا تريد أيضًا أن يتكرر الانتظار الذي انتظرته على مدى السنوات العديدة التي مرت منذ غادر أبوه، ولا تريد في الوقت نفسه الجلوس أمام البحر تناجيه، وتسائله، عن عودة الغائبين. (ص15).
وأما البعد الثالث، والأخير، فهو الزمن الذي نصغي فيه لصوت الراوي – زمن الكتابة-، وهو يروي لنا ما يقع؛ كاستعادة صوت الجدة، واستعادة ما تقوله الأم عن رحلة الموت، وما ورثه من يتم، وفقر. واستعادة ما تقوله ماتيا زوجة العم، وهي تروي له ما عانته الأم من آلام، وما ذرفته من دموع. ولا يفوته ما قالته له الأم عن الغربة، وعن السفر، وعن القلب الذي لا تخيب توقعاته. وأخيرًا ما يقوله عن الحال التي هو فيها، والموت البطيء الذي يتسلل إليه.
وقد يعترض القارئ على هذه القصة، طارحا سؤالا، هو: أين يقف السارد مما يرويه؟ وأين هي البلدة، أو المدينة، التي يغادرها بحرًا؟ وإلى أي جهة كان قصده؟ أهو ذاهب إلى أوروبا مثلا، أم إلى مكان آخر؟ ومن هو الشخص الذي يؤدي دور المهرب الذي يغري المهاجرين فيتكدسون في القارب كما الأسماك في علب السردين؟ وما الذي جرى للقارب الذي ناءَ بحمولته؟ وكيف تعامل صاحب المركب، ومن يقودهُ، مع المهاجرين؟ ونحن نعتقد أن هذه التفاصيل لم تشغل المؤلفة على الرغم من أنها لو أضيفت لكانت جديرة بجعل القصة أكثر جوْدةً، وأقرب إلى الإيهام بالواقع.
حلم
تنتهي القصة السابقة بما يفصح عن هاجس غرائبي يلقي الضوء على استراتيجية السرد لدى الكاتبة البيروتي. وفي قصة (حلم) تقوم آليات الكتابة على الحافز الغرائبي. فالسجينة التي تضيق ذرعا بالزنزانة ، التي تشبه قفصًا من تلك الأقفاص التي تحشر فيها العصافير، وتحبس، لتحد من قدرتها على التحليق والطيران، تتوق هي الأخرى للتحرر من القفص، لكن من غير أن تحطم القضبان، إنما عن طريق الأحلام والرؤى المنامية. وهكذا دبت فيها الشجاعة، والجرأة، لتطلب من السجان السماح لها بالتحليق على أجنحة الحلم، وهذا بدوره يسمح لها كغيرها من عباد الله ما دامت ترضى بالشروط. فلا ينبغي لها أن ترى إلا حلما واحدا، وألا تعود لهذا إلا بعد أسبوع. أما الوسيلة التي تفتح لها باب الأحلام على مصراعيه فهي كبسولة كتلك التي تباع في الصيدليات. وهذا ما كان. فبعد تناولها الكبسولة فارقت السجينة القفص لترى نفسها في عالم آخر يتصدره درج يقودها إلى شرفات ومن بعدها شرفات. ولا ريب في أن تسلق الدرج، وصعوده، يشعرانها بالسعادة؛ كونها قد تحررت تماما من قضبان القفص عبر هذا الحلم، لكن الأمر لا يستمر طويلا فسرعان ما تعود مرة أخرى لعتمة السجن، والانزواء وراء القضبان. تتقلب هذه السجينة بين حلم كأنه كابوس، وكابوس كأنه حلم، قبل أن تجد نفسها في مقبرة. وهناك تتخير قبرًا، وتتمدد فيه إلى جانب جثة امرأة مضى على دفنها زمن طويل، وتتظاهر بالموت فيما يقوم السجان بأداء دور مماثل، فكأنه هو الآخر يتوق للتحرر من السجن، وهنا يتساوى السجين والسجان؛ فالكل ينتظر دوره ليغرق في الأحلام، والكوابيس.
ولا جدال في أنَّ هذه القصة تقوم على حبكة مغايرة للقصة السابقة « ليت للبحر لسانا يحكي «. إلا أن في القصتين شيئا مشتركا، فالسارد في القصة المذكورة محبط يبحث عن الحل في الهجرة، والسجينة في هذه القصة محبطة تبحث عن الحل في الأحلام، رغم أنها أضغاث. وقد ثبت بالدليل المحسوس، والبرهان الملموس، أن ما ظناه حلا ما هو إلا شيء وهمي، فكلاهما توصل لنتائج عكسية؛ الأول نرى جثته على الرمال تتناوشها الجوارح، والثانية تتظاهر بالموت، وتدفن نفسها في قبر وهي حية. وهذاالإحباط لا يقتصر على المهاجر، ولا على السجينة، بل يتسع ليشمل السجان الذي يتوق هو الآخر للحلم نازعا الكبسولة عن جبين السجينة ليرى ما يمكن أن يحققه من تحرر عن طريق الأحلام فيكتشف أنه واحد من كثيرين ينتظرون أدوارهم على باب الحلم، ليستمتعوا بالرؤى المنامية، طالما أنهم يضيقون ذرعا بحياتهم اليومية التي لا تختلف قطعا عن الحياة في السجون، والاحتجاز وراء القضبان .
فالأحلام تتيح لمن يحلمون الشعور بالحرية، والانطلاق، على الرغم من أن هذه الحرية، وذاك الانطلاق، وهميان.
أحلام مؤجلة
وتعود بنا البيروتي لحكاية الرغبات المحبطة مرة أخرى في قصة ينم عنوانها على هذا، فهي بعنوان « أحلام مؤجلة» إذ تكفُر الساردة بالحب، لأن تجربتها فيه كانت مريرة. فهو في رأيها مصيبة كبيرة، وخدعة أكبر. فأن يعيش الإنسان لحظات حب قصيرة، وعابرة، معناه أن يدفع ثمنها باهظا طوال عمره. (ص58) ذلك لأن هذه الساردة التي أنهكها تصحيح أوراق الامتحان تقوم بزيارة صديقة لها، وكتب عليها أن تتأخر قليلا، والزوج بسلامته يريد مغادرة البيت، والأبناء « جننوه « (ص56) يقول مخاطبا الحبيبة – الزوجة – كفاك كلاما فارغا وثرثرة. تنقلب الأماني المعسولة إذا من أحلام سعيدة إلى أخرى مؤجلة، وإن كان الأدق إلى كوابيس، فالوعد بألا تلازم البيت، وأن تذهب حيث تشاء، وأنى تشاء، وأن تملأ الدنيا فرحًا، كل ذلك يتبخر تماما نتيجة الألفة، والانهماك في الحياة اليومية. تلك التي تترك آثارًا في الروح، وفي الجسد: « دموعي تنساب هذه المرة على وجنتي، وأسارع لمسحها بظاهر كفي المخشوشنة من كثرة الأعمال البيتية..» و « تدرين؟ التقيتك قبل سنوات. بالكاد عرفتك الآن. كنت مشعة جمالا، ما الذي غيرك؟ تغيرتِ كثيرًا؟! « وترد « الحياة تغيرنا كثيرًا. ظروف «(58- 59) فما تعهَّد به العاشق قبلا تحول لديه عندما صار زوجا، وأبا مسؤولا عن عائلة، لأحلام بائسة، وفارغة، ومؤجَّلة. والجنة الموعودة تتحول إلى ما يشبه صحراء قاحلة، منسية، إلا من مشاعر متقدة تنعي – بحزن – تلك الرغبات، والآمال، التي أحبطتها الظروف، وسلطة الزوج الطاغية. وهذه الرغبات تتكرر في قصص أخرى، فالإحباط هو سيد الموقف لدى حنان البيروتي.
يذكر أن للكاتبة نحو 12 مجموعة منها: الإشارة دائما حمراء 1993 ولعينيك تأوي عصافير روحي 1996 و فتات 1999 وتفاصيل صغيرة 2007 وفرح مشروخ 2007 وليل آخر 2012 ولمن أهدي أزاهير العيد 2013 وبين بكاءَيْن 2015 وأحلام متأخرة. ولها رواية واحدة، وشاركت في اثنين من الكتب المشتركة، وفازت بعدد من الجوائز.
*فضاءات للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، عمان: 2017
عن الدستور الأردنية