عن النّموذج الذي يقدّمه “حزب الله” لبناء الدّولة
بقلم: فارس خشان
النشرة الدولية –
النهار العربي –
أطلّ رئيس المجلس التنفيذي في “حزب الله” هاشم صفي الدين قبل أيّام قليلة، نافياً عن حزبه “تهمة” الدويلة التي يطلقها من سمّاهم “الخبثاء الماكرين”، معلناً، في المقابل، “أنّ ما نقوم به هو عبارة عن تقديم نموذج لهؤلاء الحاقدين ولكل الناس كيف تُبنى الدولة”.
إذاً، يبني الرجل الذي يعتبره كثيرون المرشّح الأوفر حظاً لخلافة الأمين العام الحالي حسن نصر الله، في حال أصابه أيّ مكروه صحي أو أمني، ترويجه لنهج “حزب الله” بالاستناد الى المقارنة مع أداء سلطوي أوقع لبنان في الجحيم.
في هذه المقارنة، لا يُخطئ صفي الدين، على اعتبار أنّ أداء أيّ فريق يملك الإمكانات المالية والقوة العسكرية والحصانة القضائية والحرية الأمنية، يتفوّق، بسهولة، على أداء السلطة الشرعية اللبنانية المثبت فشلها، في كل المجالات.
ولكنّ ما يتجاهله صفي الدين، في هذا السياق، هو أهم بكثير ممّا يذكره، إذ إنّ السلطة، بكل تلاوينها، ليست نقيضاً لـ”حزب الله” بل هي، بطريقة مباشرة حيناً وبطريقة غير مباشرة أحياناً، المرآة الحقيقية التي تعكس الوجه الحقيقي لهذا الحزب، على اعتبار أنّه المساهم الأكبر في “صناعتها”، حيناً وفي “إفشالها”، حيناً آخر.
إنّ “حزب الله” الذي يحاول الظهور، في هذه المرحلة السياسية، بثوب “الناصح” و”الحَكم” و”المصلح”، يتحمّل المسؤولية الأولى عن إفشال المبادرة الفرنسية، في صيغتها الأساسية، عندما اشترط أن يسمّي هو و”حركة أمل” الوزراء الشيعة، في حكومة يفترض أن تكون، وفق المهمة الموكلة إليها، حكومة مستقلة عن القوى السياسية.
وما إنْ تمّت تلبية شرط “حزب الله” حتى سارع أقرب فريق سلطوي إليه، وهو “التيار الوطني الحر” إلى اشتراط “المعاملة بالمثل”، الأمر الذي دفع بالسفير مصطفى أديب الى الاعتذار عن تشكيل الحكومة، في وقت كانت فيه احتياطات مصرف لبنان التي نفدت مؤخراً، في هامش، يسمح بإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
وفي تقييم باريس لإفشال مساعي أديب، كان “حزب الله” حاضراً، أساساً، على اعتبار أنّه قوة سياسية تفرض ما تشاء على غيرها من القوى اللبنانية، بالترهيب، وفق ما ندّد به صراحة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.
وعندما جرى تكليف الرئيس سعد الحريري، بتشكيل الحكومة، بصفته “المرشح الطبيعي” لهذا المنصب، اتّبع “حزب الله” نهجاً معطّلاً لتشكيل الحكومة، عندما سهر على مراعاة “توازن القوى” بين حليفه رئيس الجمهورية ميشال عون، من جهة، و”المرشّح الطبيعي”، من جهة أخرى.
وبهذا النهج، لعب “حزب الله” دوراً ريادياً في تعطيل المسار السياسي، في دولة تحتاج الى عمل مضاعف، حتى تخرج، ولو نسبياً، من أعنف أزمة تعصف بها.
صحيح أنّ عون والحريري يتحمّلان مسؤولية مباشرة وكبيرة عن التعطيل، ولكنّ “حزب الله” كان القوة التي اختبأت، وراء صراعهما، لمنع البلاد من أن تسلك درب الحد من خسائر الدولة.
وفي أسبقيات “حزب الله” أنّه قاد فراغاً استمر زهاء سنتين ونصف سنة، حتى يتمكّن من فرض إرادته المتمثّلة في إيصال العماد ميشال عون الى القصر الجمهوري.
وقد أدّى هذا الفراغ الى إنهاك الدولة والقوى السياسية التي، خلافاً لـ”حزب الله”، تستمد قوتها من قوة الدولة، فتورّط لبنان، من أجل الخروج من “عنق الزجاجة”، بصفقات سياسية “مفسدة وفاسدة”، أنتجت السلطة الحالية التي يستعملها صفي الدين معياراً من أجل تمجيد النموذج الذي يقدمه “حزب الله”.
وأبعد من “الحبائل” السياسية التي سرّعت في تحويل لبنان الى “دولة فاشلة”، فإنّ “حزب الله” ألحق بلبنان خسائر فادحة أعنف من تلك التي ألحقها الفساد المستشري به، بحيث أصاب العلاقات اللبنانية مع أقرب الدول إليه بأضرار جسيمة، كما هي عليه الحال، مع المملكة العربية السعودية التي كانت، في كل الحقبات، تسارع الى نجدة لبنان، كلّما تعرّض لمصاعب اقتصادية ومالية واجتماعية وسياسية.
لقد تعاطى “حزب الله”، من خلال إقحام لبنان، رغماً عن أنفه، في المحور الإيراني، مع الدول المساندة للبنان على أنّها عدو.
وبالتدقيق في خطاب صفي الدين الذي يأتي، في وقت يحوط الغموض بالوضع الصحي لنصر الله بعد إطلالته، مريضاً صدرياً، في “عيد المقاومة والتحرير”، يتبيّن أنّه رفع حدّة الهجوم على هذه الدول من خلال وصفه قياداتها بـ”الأذلّاء”، من دون أن يترك من القاموس أي صفة شتائمية إلّا ووجّهها الى معارضي الحزب في الداخل اللبناني.
إنّ هذا النهج الذي يتّبعه “حزب الله”، وجدّد صفي الدين التعبير عنه بـ”أصولية”، هو ما يطمح جميع الراغبين بإخراج لبنان من مأزقه، إلى تغييره، لأنّه نهج تسبّب بخسائر فادحة للبلاد، وفي حال استمراره، سوف يحول دون الحد من هذه الخسائر.
على أيّ حال، وبغض النظر عن كل هذه المعطيات، ما هو النموذج الذي قدّمه “حزب الله” في لبنان؟
على مستوى الوحدة الوطنية، قدّم الترهيب لتحقيق الأهداف، على حساب التفاهم الديموقراطي.
وعلى مستوى العدالة، قدّم التهديد بقطع كل يد تمتد الى مطلوب ينتمي إليه، حتى ولو كان متورطاً باغتيال رئيس حكومة ووزراء.
وعلى مستوى الاقتصاد، قدّم مصلحة “المموّل” على مصلحة الوطن.
وعلى المستوى العسكري، قدّم قوته الميليشياوية، على حساب القدرة الشاملة التي يفترض أن تتمتّع بها المؤسسات العسكرية والأمنية في البلاد.
وعلى مستوى العلاقات الخارجية، أخذ البلاد الى حيث يريد “الحرس الثوري الإيراني”، فوقع اللبنانيون في المأزق الذي يتخبّط فيه الإيرانيون والسوريون والعراقيون واليمنيون، مع فارق القدرات الذاتية التي تملكها إيران وسوريا والعراق واليمن التي هي أهم بأضعاف مضاعفة من القدرات الذاتية التي يملكها لبنان.
منذ سنوات، خاطب نصر الله إسرائيل، محذّراً إيّاها من الدخول في “حرب مع لبنان”، مستنداً في ذلك إلى أنّ صواريخ حزبه قادرة على ضرب معامل الكهرباء فيها، وتالياً على حرمان الإسرائيليين من الكهرباء لأشهر، وهم غير معتادين على “العتمة”، في حين أنّه لن يجدي إسرائيل نفعاً ضرب معامل الكهرباء في لبنان، لأنّ اللبنانيين اعتادوا على “العتمة”.
وهذا يعني أن قوّة “حزب الله” تكمن في انهيار قطاعات لبنان الخدماتية التي يفترض أن توفّرها أيّ دولة طبيعية.
وصفي الدين، في خطابه الأخير، لم يخرج عن هذا الخط، فالترويج لحزبه كنموذج حاكم، يقوم على فشل سلطاته السياسية الحاكمة التي لعب “حزب الله” دوراً رائداً في إيصالها الى حيث هي فيه وعليه.