“أيقونات العرب” في باريس: الحاضر يتحسّر على الماضي (1)

النشرة الدولية –

النهار العربي –  فارس خشان –

“الأيقونات العربيات. من أم كلثوم الى داليدا”، هو عنوان المعرض الذي يقيمه معهد العالم العربي في باريس.

العنوان لا يفي “المعروضات” حقّها، وإن كان هدفه هو الجذب وليس الدقّة، فالفرنسيون عموماً وعربيو الأصل خصوصاً، مع تحرّرهم من إجراءات الحجر التي فرضتها الخطة الحكومية لمكافحة جائحة كورونا، يميلون الى الترفيه والإنغماس في سِيَر حياة “النجوم” أكثر من الإبحار في نضالات تحرّرية خاضتها نساء لم تخلّدهن لا أغنية ولا رقصة ولا فيلم.

وما إن تتجاوز المدخل الذي يستعرض صور أبرز “الأيقونات”، بطريقة فنيّة جميلة، على إيقاع أعرق الأغاني المصرية واللبنانية، حتى تُدرك أنّ روحية المعرض أبعد من عنوانه بكثير، إذ إنّها ترتكز على “الحركة النسائية التحررية” التي انطلقت، بقوة، مع بداية العقد الثاني من القرن العشرين، ونجمتها هدى الشعراوي، بالتزامن مع بدء مسيرة “سلطانة الطرب” منيرة المهدية و”سلطانة الرقص” بديعة مصابني، وذلك قبل سنوات قليلة من خلع “أم كلثوم” ثياب الصبي التي كان والدها يجبرها على ارتدائها، حتى يسمح لها بالغناء، في فرقته، أمام الجمهور.
وقبل أن تجول ممتّعاً الروح والعقل، على “الإرث” التحرري، بشقيه الثقافي والفنّي، تنبّهك إشارة إلى أنّ “نهضة” القاهرة مع نجماتها الخارجات من بيئات إجتماعية متنوّعة والمنتميات الى الإسلام والمسيحية واليهودية، وتألّق بيروت مع فيروز والأخوين رحباني، انتهت مع صعود التيارات الإسلامية هنا والحرب اللبنانية هناك.
وهكذا، فإنّ الجولة على “الزمن الذهبي” لا يمكن أن تنطلق، قبل أن تتمّم عقد الزواج بين الإبتسامة لما كانت عليه حالنا وبين الدمعة على ما أصبحت عليه.
هدى الشعراوي ورفيقاتها
عندما انتهت الحرب العالمية الأولى، كانت “كوزموبوليتينية” القاهرة قد وصلت الى أوجها. لم تعد تقاليدها، في ظل هذه العالمية، “تليق بها”، ففتحت ذراعيها للأفكار التحررية التي بدأت في صراع ضد الأمبريالية البريطانية ولكنّها لم تقتصر عليها أبداً.
في هذا الجو، خرجت هدى شعراوي، وهي ابنة “باشا” إلى الضوء، ومعها سيزا نبراوي وصفية زغلول وغيرهما الى الضوء، حاملات قضايا اجتماعية تهدف الى إعادة الاعتبار للمرأة في مجتمعها.
طرحت هؤلاء الرائدات اللواتي أنشأن اتحاداً نسائياً، مواضيع جدلية، مثل إلزامية الحجاب، محو الأمية والتعليم، حق المرأة في التصويت، والإجحاف في قوانين الأحوال الشخصية.
وكانت نبراوي أوّل سيّدة تخلع حجابها، في العام 1919 ولحقتها رفيقاتها، تباعاً.
وذهبت الحركة النسائية الى أبعد من ذلك، فبدأت مع الأديبة مي زيادة إقامة الصالونات الأدبية، حيث اختلطت النساء والرجال، وأطلقت الشعراوي صحيفة “المصريّة”، بطبعتين فرنسية وعربية منفصلتين.
منيرة المهدية وبديعة مصابني
في هذا الجو العابق بنضالات التحرّر السياسي – الثقافي – الاجتماعي، وجدت شجاعة منيرة المهدية بيئة حاضنة، فكانت أوّل امرأة مسلمة تعتلي خشبة المسرح، وجرى احتضانها مطربة أصيلة الى درجة رفعت فيها الى مرتبة “سلطانة الطرب”.
وما يصح على المهدية يصح أكثر على اللبنانية – السورية بديعة مصابني التي وصلت الى مصر، في العام 1920.
كانت مصابني رائدة في الرقص، وهي التي وضعت أصول الرقص العربي، وأطلقت العصر الذهبي للأفلام الاستعراضية، حيث يأخذ الرقص مساحة مهمة جداً.
وفي إشارة لافتة الى التكامل بين التحرّر الثقافي والفني، يبرز الدور الذي لعبته عزيزة أمير التي قبل أن تنطلق في المسرح، في العام 1925 أنشأت في القاهرة، في العام 1920 صالونها الأدبي الذي جمع شخصيات فنيّة وثقافية وفكرية.
وفي عالم المسرح إلتحقت عزيزة أمير بفرقة “رمسيس” مع يوسف وهبي، وكانت لها بصماتها المهمة في التمثيل والإنتاج والإخراج.
ويسجّل التاريخ أنّها كانت أوّل من أنتج فيلماً عربياً طويلاً بعنوان “ليلى”، حيث لعبت دور البطولة.
وإلى هذه القاهرة، وصلت من لبنان آسيا داغر، في العام 1923، حيث أسّست “لوتوس”، وهي شركة انتاج سينمائي، ومثّلت في أكثر من عشرين فيلماً.
آسيا داغر أطلقت قريبتها ماري كويني، والمخرج يوسف شاهين واكتشفت صباح التي لها مساحة استعراضية لافتة في المعرض الباريسي.
في هذا الجو، خلعت “أم كلثوم” ثياب الصبي وقرّرت، رغماً عن إرادة عائلتها، أن تكون مطربة وامرأة في آن.
وبدءاً بـ”سيّدة الطرب” يصبح عنوان المعرض الباريسي صحيحاً، إذ يجول على كبار الفنّانات العربيات وصولاً الى داليدا التي، خلافاً لسائر زميلاتها المكرّمات، لا علاقة لأصلها العربي بتألّقها الفنّي، ولكنّ ذكرها في عنوانه لا يخلو أبداً من البُعد التسويقي لجذب الجمهور الفرنسي.
وقبل الجولة مع “أم كلثوم” و”أسمهان” و”وردة” و”صباح” و”فيروز” وغيرهنّ، لا بد من وضع المعرض في سياقه الزمني.
إنّ التركيز على “الأنثوية” هو ابن اللحظة الراهنة، حيث تنطلق الحركات النسائية في العالم الى أفق مطلبي جديد، فيما تعود المرأة العربية الى كثير من مطالبها القديمة، وكأنّ الزمن أعادها الى ما قبل الحرب العالمية الأولى.
وفي غالبية الأحيان، لا يكون تمجيد التاريخ  إلّا لتحفيز الحاليين من خلال استذكار نضالات الأجداد.
(يتبع)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى