جيل «البحث عن معنى»
بقلم: سوسن الأبطح

النشرة الدولية –

ثلاثة ملايين شاب عاطل عن العمل دون سن الخامسة والعشرين في أوروبا. شكوى عارمة من تفشي القلق والاكتئاب، ازدحام غير مسبوق على زيارة العيادات النفسية، تصاعد للجريمة خاصة في المدن، مثل لندن وباريس وروما. تقارير غاية في التشاؤم، من التحولات التي أصابت الشباب بعد عام ونصف العام من الحجْر، وإغلاق مؤسسات، وصعوبة العودة إلى حياة تشبه التي كانت.

للمرة الأولى منذ تفشي الجائحة، أطلقت بالتزامن، وسائل إعلامية أوروبية عدة، نداءً، طلبت فيه من الشباب الإدلاء بشهاداتهم. تجاوب المئات من ثلاثين دولة. جاءت المشاركات غاضبة، متوترة، ومتحاملة على مسؤولين، تسببوا في الأذى لجيل بأكمله. وهو ما بدأ يحمل على الخوف من ردود فعل مستقبلية غير متوقعة. ثمة من المعلقين من يتحدث عن «حرب أجيال»، ومن يرى أن اهتزازات سياسية قادمة، لأن هناك من سيثأر لنفسه بيده، وغيرهم يطمئنون إلى أن الجيل اليانع شديد القدرة على التأقلم والعثور على حلول.

شهادات الشبان، تنمّ عن خوف وإحساس، بأن كل أنواع الخراب قد تحلّ في أي لحظة. «يمكن أن ينتهي العالم غداً»، وأن «النظام الحالي ضعيف، كما لو أنه مثبّت بشريط لاصق وأعواد أسنان». ويقول أحدهم «أمرّ بأزمة منتصف العمر وأنا في الثانية والعشرين». وتعلق صحيفة «الغارديان» البريطانية التي شاركت في إطلاق هذا النداء، «ثمة شعور أن كبار السن يديرون المجتمع من أجل كبار السن». «الشباب يعرفون أنهم سيكونون أكثر فقراً من آبائهم»، وهم على استعداد للمضي بأي حركة احتجاجية؛ مما يفسر، حجم المظاهرتين الكبيرتين غير المعهودتين، اللتين شهدتهما لندن تأييداً لفلسطين.

ليس حال الشاب الأوروبي هو ما يقلقني، ففي النهاية لهم من يعنى بهم. خطر لي أن الأزمات العربية مضاعفة أو أربع مرات أكبر مما تعانيه أوروبا. نحن نكاد لا نعرف أي بؤس يعيشه شبابنا، جراء الحروب والبطالة والحرمان. قليلة هي الاستطلاعات، التي تعنى بهمومهم، لكن المتوفر يبين أن نصفهم يرغبون في الهجرة، وفئة منهم على استعداد لتحمل مخاطر المحاولات غير الشرعية. هؤلاء غايتهم الوصول إلى أوروبا أو كندا وأميركا. البلد الأخير هو الأكثر بريقاً، مع أنه صار هو نفسه يشكو من تعاظم حجم الجريمة وكوارث تعاطي المخدرات، بعد الجائحة. هل يريد المنحوس أن يتعلق بقشة خائب الرجاء؟ أليست جنان الغرب بدأت تتصحر، في حين تحولت البلدان العربية في غالبيتها، إلى كوابيس لا نهاية لظلمتها!

إذا كانت أوروبا نادمة لأنها أهملت شبابها وضحّت بهم أثناء الجائحة، فما الذي على العرب أن يقولوه، وهم يذبحون أطفالهم كالخراف جيلاً تلو آخر. تفرد الصحف الأجنبية صفحاتها لشهادات شبانها، وترصد لهم المحللين والمتخصصين في علم النفس والاجتماع، لفهم متاعبهم، ويملأ الشبان العرب وسائل التواصل صراخاً واحتجاجاً ولا من يسمع. هؤلاء يصبرون على البطالة ويعضّون على الفاقة. وإذا صدقنا الدراسات، فإن أولويتهم الأمن والسلامة. إنهم فقط يريدون أن يبقوا أحياء، ومطلبهم الثاني القضاء على الفساد في بلدانهم، وأن ينالوا قسطاً من التعليم. لا كلام عن تدهور الصحة النفسية، أو حلم المهاجرين الصغار في العودة، يوماً، إلى بلدانهم التي طردتهم من رحمتها.

كتبت «لوموند» الفرنسية «من بيزا إلى لندن عبر إشبيلية أو لاروش سوريون، (تتفتت الحياة الوردية والثقافية والرومانسية للشباب، يلغون مشاريعهم، يخضعون لدورات تدريبية غير مفيدة، يجدون صعوبة في العثور على وظيفة، ويعيشون نوبات من القلق)». شهادات الشبان كرروا خلالها ألفاظاً ذات دلالات قاسية وهم يصفون ما يواجهونه؛ إذ اعتبروه «مرعباً»، «ساحقاً»، نوعاً من «محنة»، تفضي بهم إلى «رتابة» تتسبب في «إرهاق» و«اضطراب».

أي غد لعالم أغنى بلدانه، وأكثرها دلالاً يخشى عواقب غضب «جيل ضائع» يعرف سلفاً وقبل أن يدخل سوق العمل أنه سيدفع ضرائب أعلى من سابقيه، ويتحمل ديوناً أكبر وأزمات أكثر. يوصف بأنه «الجيل الأكثر اضطراباً منذ الحرب العالمية الثانية».

غموض المستقبل لا يخفيه من حاولوا تحليل المشاركات، أما المفاجأة العربية فلم تظهر بعد. الربيع العربي لم يكن سوى مقدمة صغيرة لما سيأتي. الاستطلاع الذي أجرته «بي بي سي»، مع «بست نوليج» العام الماضي، طرح أسئلة حساسة. الجيل الجديد، مختلف، وله توجهات قد تقلب شكل المجتمع في السنوات المقبلة. فهم بحسب هذا الاستطلاع، الذي لم يشمل دولاً خليجية، أقل تديناً ومحافظة من آبائهم، يؤمنون بحق المرأة في اعتلاء مناصب قيادية وحتى تسلم الرئاسة، تصل نسبة المؤيدين إلى 75 في المائة في لبنان والمغرب وتونس. وهم لا يزالون، رغم الانفتاح الكبير، يرون في الرجل حامياً للمنزل ومسؤولاً عن القرارات الحاسمة. وعلى عكس كل ما يشاع، ليس لديهم تسامح مع المثلية الجنسية. الشباب العربي يشكل أكثر من نصف المجتمع، ومع ذلك يقصى عن المشاركة السياسية، لكن مهما تم إبعاده في لبنان والعراق وفلسطين وأماكن أخرى لا بد سيجد، في النهاية، سبيلاً للوصول. المشهد سيتغير، ليس بالضرورة إلى الأفضل. فالمراحل الانتقالية حافلة باللامتوقع. وهي غالباً رجراجة ومزلزلة. قد يكون شباننا الذين لم تؤمّن لهم الضمانات الصحية لزيارة الطبيب النفسي، والوجبات المجانية التي تقيهم غائلة الجوع، والرواتب التعويضية التي تعينهم على الحجر من دون منّة، هي من أسباب صمودهم. وكل الاحتمالات ممكنة، ما دام المشهد محجوباً بغلالة عازلة، لا تدعنا نرى أو نتلمّس ما ينتظرنا. «إنه جيل البحث عن معنى» كما تقول آن موكسا، مديرة في المركز الفرنسي الوطني للبحث العلمي، ومضطر إلى إيجاد توازنات صعبة بين قديم يهوي، وجديد ينبجس، وما بينهما يناضل ليشق طريقاً لم تتضح معالمها بعد.

  • أستاذة في “الجامعة اللبنانيّة”، قسم “اللغة العربيّة وآدابها”، صحافيّة وكاتبة في جريدة “الشّرق الأوسط”

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى