الهجرة الجماعية مصير اللبنانيين… رسالة المحكمة الدولية كتتمة لتقرير البنك الدولي
بقلم: طوني فرنسيس
النشرة الدولية –
صفعتان في أسبوع واحد تلقاهما الطاقم السياسي في لبنان، من دون أن تثيرا لديه أي مشاعر بالمسؤولية عن ترك البلد مستمراً في غرقه اللامتناهي في سلسلة من الأزمات الخطيرة.
في مطلع يونيو (حزيران) الجاري، أصدر البنك الدولي تقريراً عن الأزمة الاقتصادية في لبنان، مرجحاً تصنيفها بين أشد ثلاث أزمات على مستوى العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر.
وفي اليوم التالي، أعلنت المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، المكلفة كشف ومحاكمة قتلة رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري وعدد من الشخصيات السياسية البارزة، أنها تعاني أزمة تمويل حادة، ولن تتمكن من مواصلة مهماتها بعد يوليو (تموز) المقبل من دون مساعدات فورية.
وعلى الرغم من عدم وجود رابط بين إعلاني البنك والمحكمة، فإن صدورهما عن مؤسستين دوليتين بهذه الأهمية، وفي توقيت متزامن. يضيف ثقلاً نوعياً على مجمل التحذيرات والتنبيهات التي تلقاها المسؤولون اللبنانيون على مدى عام ونصف العام، بسبب امتناعهم عن القيام بما يتوجب عليهم من إجراءات وتدابير تتيح إخراج بلادهم من المسلك المميت الذي تسير فيه.
جاءت التحذيرات الأولى على لسان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إثر زيارته بيروت بعد انفجار مرفئها، في 4 أغسطس (آب) 2020، ثم تتالت على لسان وزير خارجيته ومسؤولي إدارته بعد إفشال المبادرة الفرنسية لتشكيل “حكومة مهمة” في لبنان. ووجهت المجموعة الدولية الداعمة للبنان رسائل مماثلة، وأدلت حكومات دولية وعربية بمواقف متشابهة… ولم يتغير شيء في سلوك القوى المسيطرة على الجمهورية.
لم تكن المرة الأولى التي يتحدث فيها البنك الدولي عن “تقاعس متعمد” تمارسه السلطات اللبنانية. هو سبق واستعمل هذا التعبير في تقرير سابق. وفي تقريره الأخير ذهب أبعد من ذلك محدداً الأوصاف والمسؤوليات. فلبنان يواجه منذ “أكثر من عام ونصف العام تحديات متفاقمة: أكبر أزمة اقتصادية ومالية في زمن السلم وأزمة فيروس كورونا وانفجار مرفأ بيروت”.
ويتابع البنك الدولي أن “استجابة السلطات اللبنانية لهذه التحديات على صعيد السياسات العامة كانت غير كافية إلى حد كبير. ولا يعود ذلك إلى الثغرات على مستوى المعرفة والمشورة الجيدة، بقدر ما يعود إلى:
غياب توافق سياسي في شأن المبادرات الفعالة في مجال السياسات.
وجود توافق سياسي حول حماية نظام اقتصادي مفلس، أفاد أعداداً قليلة لفترة طويلة.
ضمن هذه الشروط يتوقع البنك الدولي زيادة في معدلات الفقر “حيث ستزداد أعداد الأسر غير القادرة على تحمل تكاليف البدائل التي يوفرها القطاع الخاص، بالتالي أصبحت أكثر اعتماداً على الخدمات العامة”، وثانياً ستتهدد “مقومات الاستمرارية المالية والتشغيل الأساسي للقطاع (العام) برفع تكاليفه وخفض إيراداته. إن الخدمات العامة الأساسية شديدة الأهمية لضمان رفاه المواطنين. وسيكون للتدهور الحاد في الخدمات الأساسية (مع استنزاف أموال الاحتياط ورفع الدعم) أثار طويلة الأجل تتمثل في الهجرة الجماعية وخسائر في التعلم وسوء النتائج الصحية والافتقار إلى شبكات الأمان… وسيكون إصلاح الأضرار الدائمة في رأس المال البشري أمراً بالغ الصعوبة… “ولعل هذا البعد من أبعاد الأزمة اللبنانية، ما يجعلها فريدة من نوعها مقارنة بالأزمات العالمية الأخرى”.
كان الرئيس اللبناني ميشال عون قد تنبأ في أحد تصريحاته بأن لبنان “ذاهب إلى جهنم”. وفي الواقع، فإن السياسات المتبعة تقود البلد في هذا المنحى، ما يجعل المواطنين يبحثون عن بلد آخر للعيش واستعادة الشعور بوطنيتهم.
وعندما يحذر البنك الدولي من تنامي ظاهرة الهجرة من “جهنم”، فإنه يضع الإصبع على قضية أكثر تشعباً. فأسباب اليأس “الجماهيري” اللبناني، تعود أساساً إلى التأزم المعيشي، لكنها تتصل أيضاً بفقدان الأمل في إمكانية محاسبة الفاسدين والمجرمين الذين يتحملون المسؤولية عن الانهيار ونتائجه وعن الانفجار الذي دمر نصف بيروت ولم تظهر الحقيقة في شأنه بعد مرور عشرة أشهر على حصوله.
في السياق، يأتي إعلان المحكمة الدولية احتمال إنهاء أعمالها بسبب نقص في التمويل ليضيف إلى الصورة سواداً على سواد. فالمحكمة التي شكلت يوم اللجوء إليها إثر اغتيال الحريري نافذة لاستعادة الأمل بالعدالة، رسمت لها القوى الدولية في قرار تأسيسها حدوداً تقضي بعدم توجيه الاتهام إلى دول وأحزاب. والتزمت المحكمة بهذه الحدود، فأعلنت خلال جلسة النطق بالحكم في قضية اغتيال الحريري في 18 أغسطس 2020، أنه “ليس هناك دليل” على تورط سوريا و”حزب الله” في الاغتيال.
كان اقتصار المحكمة على تجريم العضو في “حزب الله” مثار ارتياح لدى فئة سياسية واسعة مرتبطة بالحزب والنظام السوري، وهي التي تمسك بمفاصل السلطة في لبنان، غير أن جانباً آخر في الموضوع كان مثار استغراب لدى جمهور اللبنانيين، خصوصاً أهالي الضحايا، وهو عدم قيام السلطات بملاحقة “المحكوم الوحيد” في جريمة اغتيال الحريري، وسكوت أولياء “السياسة والدم” المطبق طوال الفترة الماضية عن نتائج عمل المحكمة ومعنى استمرارها.
لم تعد المحكمة قضية في حد ذاتها. صارت فاعليتها وتأثيرها في الفضاء اللبناني مماثلين لحالة القضاء اللبناني المتهم بالعجز عن اتخاذ أي تدبير مفيد ورادع لحماية المواطنين ضحايا السرقة والفساد. ويفهم من تردد الدول المساهمة في تمويلها، أن هذه الدول لم تعد ترى جدوى في الاعتماد على أداة لا تسهم في إقرار عدالة مطلوبة، مثلما لا جدوى من سلطة تعتبر قرار المحكمة الدولية تصريحاً سياسياً، وتغرق قضاتها في نظام المحسوبية والتبعية.
بين تحذير البنك الدولي وإنذار المحكمة الدولية، قاسم مشترك، فحواه أن العالم لا يثق بسلطة الأمر الواقع اللبنانية، لكنه لم يرسم طريق الوصول إلى بدائل عنها.