فلسطينيو الداخل واختراق جدار التعنت الإسرائيلي
بقلم: تاج الدين عبدالحق
النشرة الدولية –
إذا قيّض للحكومة الإسرائيلية الجديدة، أن تعبر ”قطوع الثقة“ والنجاة مما يكيده لها رئيس الوزراء المنصرف بنيامين نتنياهو، فإنها ستؤسس لمرحلة سياسية مختلفة في تاريخ إسرائيل، وفي مسار صراعها مع الفلسطينيين.
فهي الحكومة الأولى التي يدخل فيها عرب الـ48 طرفا في المعادلة السياسية الإسرائيلية، وهي المرة الأولى التي يفرض فيها الشريك العربي في الحكومة برنامجا من شأنه تأسيس معادلة جديدة في العلاقة مع المؤسسة السياسية والأمنية الإسرائيلية. فمنذ قيام إسرائيل وحتى الآن كانت القضية السياسية، هي التي تشكل مظلة العلاقة بالحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، وكانت الأحزاب والقوى السياسية العربية تمتنع عن أي مشاركة في تلك الحكومات لتعارض سياساتها مع أولويات القوائم البرلمانية العربية ومع شروطها فيما يخص مسألة احتلال الأراضي الفلسطينية، ومسائل الاستيطان وغيرها من القضايا المتصلة بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
من جانبها، كانت القوى السياسية والحزبية الإسرائيلية تتحرج من الدخول في أي ائتلافات مع القوائم العربية، وتتحسب من دفع أي أثمان سياسية مقابل المشاركة في تشكيلها، ووصل تحفظ الأحزاب الإسرائيلية على التعاون مع القوى السياسية العربية حد اعتبار قبول أي حزب إسرائيلي بذلك، سواء من اليمين أو اليسار بأنه نوع من الخيانة للحركة الصهيونية، وليهودية الدولة، وكانت في أحيان كثيرة تخاطر بتشكيل ما كان يعرف بحكومات وحدة وطنية من أحزاب صهيونية متنافرة في التوجهات السياسية الأساسية، تجنبا لأي تعاون مع القوى العربية في إسرائيل.
وقد أسهمت طبيعة الصراع العربي الإسرائيلي، الذي اتخذ طابعا وجوديا عشية النكبة وقيام إسرائيل في عام 1948، في جعل العرب في إسرائيل حذرين في المطالبة بحقوقهم الحياتية اليومية، إذ ظلت اللافتة السياسية التي رفعها العرب في صراعهم مع إسرائيل، تدغدغ عواطف الداخل (الخط الأخضر)، إذ لم يكن غالبية فلسطينيي الداخل في ذلك الوقت قادرين على استيعاب واقع الدولة الإسرائيلية وظل كثيرون يتمسكون بأمل التحرير ”الكامل“ الذي رفعته الدول العربية والقوى الحزبية والنخب السياسية والفكرية العريية، قبل أن يتبخر هذا الأمل بنكسة عام 1967، وتبدأ مسيرة التسويات مع الجوار العربي، ومسيرة التكيف والتعايش الفلسطيني مع الدولة اليهودية.
وكان من نتيجة هذا التطور أن أصبح الفلسطينيون في الداخل، أكثر جرأة في التعامل مع المؤسسة الرسمية الإسرائيلية، وصاروا يتحينون كل فرصة لاستثمار ومقارعة ومقاومة كل إجراءات التضييق اليومية، التي كانوا يتعرضون لها. كان انخراط فلسطينيي الداخل في الحياة الحزبية والسياسية والبرلمانية في إسرائيل هو الخيار الوحيد أمامهم للحفاظ على هويتهم القومية، ومع أن كثيرين من العرب وجدوا في ذلك الانخراط نوعا من الإذعان حتى لا يقال الخيانة، إلا أن المجتمع العربي في إسرائيل استطاع تحقيق إنجازات حقوقية كثيرة، قطعت الطريق أمام مشروع إسرائيل لصهر المكون العربي وإذابته، ومنعه من التعبير عن هويته القومية.
ويبدو أن الخطوات الصغيرة التي حققها عرب الداخل خلال السبعين سنة الماضية، تكتسب الآن زخما جديدا تحت وقع جملة من المتغيرات المحلية والإقليمية التي تقوي مكانة المكون السياسي العربي في إسرائيل وتحوله تدريجيا إلى تكتل وازن.
فعلى المستوى المحلي بات الوجود العربي في إسرائيل -والذي يشكل ما نسبته 20% من الكتلة السكانية- معززا بعد احتلال إسرائيل للضفة الغربية وقطاع غزة، بعمق ديمغرافي يحمل هذه المرة، لافتة سياسية هي السلطة الوطنية الفلسطينية أو لافتة قوى مقاومة سياسية وعسكرية لفصائل وتنظيمات سياسية وعسكرية.
يضاف إلى ذلك كله، ازدياد التداخل الحاصل بين فلسطينيي إسرائيل وفلسطينيي الأراضي المحتلة عام 67، وهو ما أسهم في الإضاءة على حياة فلسطينيي الداخل وعمّق من مطالبهم القومية من جهة، وحملهم في الوقت ذاته هموم أبناء الأراضي المحتلة، ووحد نضالاتهم في مواجهة السلوك الذي تمارسه قوات الاحتلال في الأراضي الفلسطينية من جهة أخرى.
أما على المستوى الإقليمي، فإن اتفاقيات السلام التي تواترت منذ اتفاقيات كامب ديفيد مع مصر واتفاقية وادي عربة مع الأردن واتفاقية أوسلو مع الفلسطينيين، وصولا إلى اتفاقيات إبراهيم مع الإمارات والبحرين، سحبت بشكل أو آخر البساط من تحت أقدام الإسرائيليين، الذين طالما برروا الإجحاف بحق الفلسطينيين -سواء أولئك الذي يعيشون داخل الخط الأخضر أو تحت الاحتلال في القدس والضفة الغربية وقطاع غزة – بالجو العربي المعادي المحيط بهم، وكانوا قادرين على تسويق خطاب سياسي في هذا الشأن، وفَّر لهم دعما ماديا وسياسيا مستمرا من الولايات المتحدة خصوصا ومن الغرب عموما.
تآكل الدعم الغربي لإسرائيل وتنامي الاهتمام بالحقوق الفلسطينية، يقوّي ولا شك قدرة فلسطينيي الداخل على الدخول بقوة في معادلة السياسة الإسرائيلية وإرباكها، بشكل سيدفع النخب في إسرائيل إلى مراجعة مواقف وسياسات لم يعد المناخ المحلي ولا الإقليمي قابلا بالتعايش معها أو قبولها.