مودع بالليرة بتسوى ليرة.. قصّة فتاة تجسّد عذابات صغار المودعين اللبنانيين
النشرة الدولية –
لبنان 24 – نوال الأشقر –
مساء أمس تلقّيتُ اتصالًا من شابة قريبة هي أم لولدين، ووحيدة امّ عصاميّة ربّتها في ظروف صعبة للغاية بغياب الوالد، رحلت الأم في صباها بمرض عضال، ورغم تكبّدها أعباء تربية ابنتها وتعليمها منذ نعومة أضافرها، استطاعت أن تترك لها وديعة مصرفيّة متواضعة، هي نتاج عذابات ومشقّات الحياة القاسية، حرمت نفسها من الضروريات لتدّخر شيئًا لابنتها. الحساب بالليرة اللبنانية طبعًا، علّ الفائدة تفيد ابنتها ولو ببضع عشرات الآف الليرات.
في اتصالها أرادت قريبتي سؤالي عن تعميم مصرف لبنان رقم 158 وما إذا كانت من فئة المستفيدين منه، وهو التعميم الذي أتاح الإفراج التدريجي عن أموال المودعين الدولارية، بقيمة 800 $ شهريًا، 400 $ فراش و400 $ على سعر منصّة صيرفة 12000 ليرة.
فأوضحت لها أنّها ومع الأسف الشديد غير مستفيدة، ليس لأنّها اقترفت ذنبًا عظيمًا، بل بكلّ بساطة لأنّ التعميم اشترط أن يكون حساب المودع بالدولار مفتوحًا قبل تاريخ 31 تشرين الأول 2019، ولا يسري التعميم على الأموال التي تمّ تحويلها من الليرة إلى الدولار بعد التاريخ المذكور. وهكذا تحوّلت قريبتي ومعها عشرات أو ربما مئات الآف المودعين إلى فئة المغضوب عليهم، أولئك الذين صّدقوا المقولة الشهيرة “الليرة بخير”، “فهؤلاء يا عزيزتي معاقبون، مقاصصون، ضالون، مخدوعون، بُلْه (جمع أبله) سمّهم ما شئتِ، كل ذنبهم أنّهم آمنوا بعملة بلدهم وصدّقوا التطمينات، وأودعوا أموالهم بالليرة. لا بل كان عددٌ كبير منهم يتقاضى بالدولار، يحوّل ما يدّخر من الدولار إلى الليرة، ويودع جنى العمر بالليرة، كيف لا والليرة “حديد” وفائدتها عظيمة، من بين هؤلاء مغتربون ومقيمون”.
تجاه الشابة صاحبة الإتصال والوديعة الصغيرة، تنتابني نوبات من عذاب الضمير. قبل بضعة أسابيع من بدء ظهور مؤشّرات النكبة المالية في تشرين عام 2019 ، سألتني إذا كان من الأفضل أن تحوّل “التركة” الصغيرة إلى دولار، كانت متردّدة كي لا تخسر الفائدة، وهي بحاجة إلى كلّ قرش لمساعدة زوجها في تحمّل أعباء الأسرة. بدوري أحلتُ السؤال إلى خبير في هذه الشؤون كي لا أنظّر أو أدعي المعرفة في شأن مالي نقدي كهذا، ربما لم يكن يريد أن يفضح ما يعرفه أو ربما لم يكن يتوقع أنّ زمن انهيار الليرة بات وشيكًا جدًّا، فأكّد لي أنّ لا خوف على الليرة، وأنّ المركزي قادر على الدفاع عنها. ورغم ذلك تشاورنا أنا وقريبتي، ووصلنا إلى نتيجة مفادها أنّ التحويل إلى دولار أضمن. بالفعل هذا ما فعلته ولكنّ الأمر استغرق وقتًا بين الأخذ والرد، كان ذلك بعد تشرين، أي “فرقت معها” على أيام معدودة، ولو حوّلت منذ لحظات الشك الأولى، لكانت من الفئة التي يطالها اليوم “نعيم” تعميم مصرف لبنان.
مما لا شك أنّ التعميم المذكور أراح بعض المودعين نوعًا ما، بعد أكثر من سنة ونصف على احتجاز أموالهم في المصارف، لكن بأيّ حق يُصنّف المودعون بين من يحق له سحب دولارته فراش ومن لا يحق له بالعملة الخضراء؟ وفق أيّ قانون حُرمت قريبتي ومثيلاتها من المودعين من حقّهم بالاستفادة من السحوبات على منصّة صيرفة؟ هل هؤلاء، وهم عدد لا يستهان به، ارتكبوا مخالفةً قانونية عندما حوّلوا ودائعهم الى الدولار بعد تشرين 2019؟ هل يُحاسب هؤلاء على سعيهم لحماية قيمة مدّخراتهم بعدما بدأت الليرة تهتز؟ بأي حقّ ووفق أيّ نصٍّ قانوني يسحب مودع ( Fresh dollars) وآخر على 3900 ؟ لماذا هذه الاستنسابية في التعامل مع المودعين؟ ألا يكفي هؤلاء أنّ المصرف فرض عليهم تجميد أموالهم سنتين وثلاثة لقاء قبوله بتحويل حساباتهم إلى دولار؟
في حينه عندما قلب مودعون مدخراتهم إلى دولار، ظنّوا أنّهم أنقذوا جنى العمر، ولم يخطر ببالهم أنّهم سيعاقبون من حيث لا يدرون. واليوم تتحسر الناس على قرشها الأبيض الذي جنته بعرق جبينها وتركته لليوم الأسود، فإذا بها عاجزة عن استخدامه في أحلك الأيام وأكثرها قحلًا. بأي حال لم نكن لندركَ أنّ جحيمًا ينتظرنا، فيقلب حياتنا رأسًا على عقب، وأنّ أهل الحل والربط سيقفون متفرّجين على انهيار البلد، وبدم بارد سيقدّمون البلاد والعباد قرابين على مذابح أنانايتهم وكراسيهم، والمسؤولية تقع على كل واحد، بحسب موقعه وحجم مسؤولياته في الحكم.