السينمائية التونسية كوثر بن هنية: سعيدة بالترشّح للأوسكار
النشرة الدولية –
النهار – بثينة غريبي –
مجهدةٌ هي الكتابةُ عن فيلم تمكّن من سرد التّاريخ في صورة واحدة وبلوحة تشكيلية واحدة: «رجل يبيع ظهره» من أجل حقه في الحياة. وأي حياة؟
صحيح أنّ بطل الفيلم سوريّ الجنسية، ولكن قصّته قد يعيشها أي لبناني أو تونسي أو جزائري أو ليبي أو مغربيٌّ أو فلسطيني أو عراقي أو مصري أو حتى أوروبي أو أي إنسان في عالم تحنّطت فيه الإنسانية وصار المعنى مختزلٌ في رقم: رقم الأرباح، عدد نجوم النزل، عدد المتابعين، عدد المتاحف، عدد زوّار هذه المتاحف، نسب النجاح في اكتساح العالم شهرةً وكسب مادي. هذا الرقم يمتصّ من البطل قيمته الإنسانية في نظر من حوله ويجعل منه أداة ربحية كلوحة، كآلة، كأي سلعة يُساوم عليها…
شاهدت فيلم «الرجل الذي باع ظهره» مرتين. الأولى كانت أونلاين بمناسبة مهرجان بيروت والثانية خلال عرض خاص بالصحافيين في تونس وكنت في كل مرة أتعمّد الدخول في قطيعة مع هويتي كصحفية مدعوة للكتابة عن الفيلم لأستسلم إلى دعوة كاتبة السيناريو والمخرجة كوثر بن هنية للتفكير مجددا في أسئلة اعتقدنا أننا استوفينا الإجابة عنها مع البذرة الأولى للفلسفة الوجودية.
يبحث الفيلم عن حالة الطمأنينة التي يعيشها الفرد متناسيًا الجرائم التي ترتكب من الإنسان في حق الإنسان وأحيانا باسم الفن.
سام الذي يهرب من سوريا إلى لبنان بعد أن يتمّ إيقافه لأنه تجرأ على التفوّه بكلمة ثورة في القطار، يجد نفسه مجبراً مجدداً على السفر لحاقًا بحبيبته التي زوجوها غصبًا وسافرت إلى بلجيكا.
ولم يكن أمام سام أي حل سوى أن يقبل بعرض فنان مشهور في شراء ظهره وتحويله إلى لوحة بعد الوشم عليها. يقبل سام من أجل قصة حبه فيجد نفسه في صراع بين حاجته لتحقيق تلك الأحلام وبين إنسانيته المهانة وأي مذلة أكثر من أن يباع ويشترى إنسان في المزاد العلني.
مفاجأة الترشيح
وقد أبدعت كاميرا المخرجة التونسية في تعرية هذا الواقع- بأكثر من أسلوب- وهي تلتقط طرق عرض ظهر سام في المتاحف والمعارض والمزادات وتنقل إلينا سخرية المتلقي الذي بات يستخدم أي أداة للترفيه عن نفسه، حتى لو كانت هذه الأداة «إنسان».
هذا الفيلم يستحقّ طبعًا اختياره ضمن الترشيحات النهائية للأوسكار، وفي حديث خاص مع «النهار العربي»، قالت كوثر بن هنية إنّه «حدث سعيد جداً ان يكون فيلمي في قائمة الأفلام القصيرة ويسرّني ايضًا تنويه المخرجين بالعمل، في وقت لم أتوقع فيه ترشيح الفيلم ضمن 93 فيلم ومن ثمة اختياره ضمن القائمة القصيرة والتي تضم 15 فيلم فقط».
يتنافس الفيلم التونسي ضمن فئة أفضل فيلم بلغة أجنبية مع «أناذر راوند» (الدانمارك) و«بيتر ديز» (هونغ كونغ) و«كولكتيف» (رومانيا) و«كو فاديس، عايدة» (البوسنة).
وفي هذا السياق تؤكد كوثر بن هنية ان الأربعة أفلام جيدة جدا ولكنها متفائلة لا سيما بعد سماع آراء زملائها المخرجين في عملها وفي مستقبل السينما التونسية والافريقية عمومًا. وللإشارة فإنّ انتقاء فيلم الرجل الذي باع ظهره كان بتنويه أيضا من الصحافة العالمية ومن مصوتين شاهدوه ورشحوه.
وعبّرت المخرجة بن هنية ل «النهار العربي عن حبها للفن التشكيلي، وبأنها تبدو أحيانا كرسام كاريكاتوري يسخر من شخصياته، يحركهم بمزاجه الناقد والساخر فيتأثرون بتصوراته ويستجيبون له».
هكذا تسخر كوثر بن هوية من منظومة كاملة وراء إنتاج الأرهاب وداعش من خلال مشهدين. في المشهد الأوّل، نرى قاعة المسرح حين يكون سام معروضًا أمام جمهور لا يراه إلا لوحة، ثمّ يصرخ فجأة باستخدام مكبر الصوت وكأنه داعشي يستعد لتفجير نفسه فيهرب جميع الحاضرين خائفين منه.
هنا يسقط سام على الأرض ويدخل في هستيريا لا ندري إن كانت بكاء من شدة الضحك أم ضحك من شدة البكاء.
وفي المشهد الثاني، تصوّر كاتبة السيناريو عملية وهمية لمقتل سام الذي من أجل ان يحيا لابد ان يوهم الصحافة الأمريكية والعالمية بوفاته ومن هذا الوهم ينتج وهم آخر ذلك أن الفنان المشهور جعل الناس يعتقدون أنه بعد وفاة سام تمكن من نزع ظهره وعرضه في لوحة. وكان على سام خذاع الناس بمقتله على يد داعش حتى يضمن تحرره من المتاجرة بجسده باسم الفن.
يؤدي أدوار البطولة في الفيلم الممثل السوري يحيى مهايني والفرنسية ديا ليان والبلجيكي كوين دي باو والإيطالية مونيكا بيلوتشي.
ويحيلنا الكاستينغ إلى أن الفيلم لا يحده زمان ولا مكان وإنما يعانق مشاغل الإنسان والإنسانية أينما كان، من سوريا إلى لبنان وأوروبا… هي قضايا انسان يلاحق اسباب وجوده ويختار الهجرة من أجل الحب فيعيده هذا الحب الى الوطن.
وفي هذا السياق، أخبرتنا كوثر بن هنيّة: «أسافر وأتنقل كثيراً وأعشق السفر وفي كل مرة أجد أنّ قصصًا جديدة وحكايات مختلفة تعترضني، منها ما يندثر ومنها ما يسكننا كهواجس ترافقنا لننتقي منها الفكرة الملحّة لإنجازها. وفكرة الرجل الذي باع ظهره تراودني من زمن بعيد ولكن في كل مرة أؤجّلها الى حين اكتمالها في ذهني وكتابتها. وأنا أعتبر أن انجاز الفيلم مغامرة، لكنني خضت هذه المغامرة بكل شغف».
وحول تجربتها في كتابة سيناريو الفيلم تحدثت كوثر بن هنية عن صعوبة التجرّد من انتمائها وذاتيتها لتكتب بكل موضوعية وبكل عمق ورصانة فكرية.
لم تنجح كوثر بن هنية في النبش في قضية وجودية مهمة فحسب، وإنما تمكنت من تحقيق الموازنة بين المضمون والفن. لقد نجحت الكاميرا في نقل التفاصيل وإعطاء الحركات والأفعال رمزيات جديدة كثّفت المعاني وأخرجت الفيلم من حدود خريطته الاجتماعية والثقافية والسياسية.
الحدث المنتظر سيكون في الخامس والعشرين من الشهر الجاري، ضمن برنامج الدورة الثالثة والتسعين للأوسكار. وقد يكون هذا الاوسكار من نصيب بن هنية التي يُعدّ فوزها انتصارًا لقضايا حقوقية إنسانية في السينما العالمية. والأكيد أنّ تتويج «الرجل الذي باع ظهره» سيكون تتويجًا لحق الإنسان في الحياة والعيش بكرامة وبحرّية. وسيكون دون شكّ إنجازاً هائلاً لمخرجة عربية.
وعن التجارب السينمائية العربية الأخرى، تصرّح كوثر بن هنية للنهار اللبناني أنّ هناك مخرجات عربيات متميزات، ومنهنّ نادين لبكي التي سبق أن ترشحت للأوسكار. وأضافت قائلة: » نادين لبكي مخرجة مهمة جداً وتجربتها السينمائية متميزة. ومدير تصوير فيلمي كريستوفر هو نفسه مدير تصوير فيلم نادين لبكي».
وتقول كوثر بن هنية في نهاية حديثها معنا أن ليس هناك قضية واحدة تشغلها كمخرجة أو كامرأة عربية. فهي مثلما تطرح قضية كونية، قد تقدّم فيلماً من نوع الخيال العلمي.
كوثر بن هنية مخرجة ثارت على الخارطة بكل أصنافها ووحدت العالم في سؤال وجودي تطرقت إليه من خلال أفلامها التي تدافع فيها عن ضمان حسن البقاء وحق الإنسان في الحياة.
كوثر ابنة سيدي بوزيد المدينة التونسية، التي اندلعت منها الشرارة الأولى للثورة ذات 17 كانون الأول 2010. ولعلّ مدينة قد تهدي تونس وافريقيا والعالم العربي أيضاً شرارة الثورة السينمائية إذا ما تُوّج فيلم بن هنية بالأوسكار. هذا الفيلم الذي يعرّي الوهم الغربي دفاعًا عن الحق الإنساني، وعن اللاجئ السوري، وضحايا اللجوء بكل جنسياتهم، دفاعا عن إنسانية الإنسان.