صدام الأدوار على طريق جنيف
بقلم: رفيق خوري

النشرة الدولية –

روسيا كانت ولا تزال صاحبة دور ومطلوبة لدور في الخارج، ولا فرق، سواء كانت إمبراطورية أيام القياصرة ثم أيام السوفيات، أو صارت الاتحاد الروسي أيام يلتسن ثم بوتين، موسكو القيصرية أخذت، بعد سقوط القسطنطينية والإمبراطورية البيزنطية، دور حامي الأرثوذكس في البلقان والشرق الأوسط، وتصرفت على أساس أنها “أورشليم الأولى “لا مجرد “روما الثانية”، وهي دخلت في حروب واتفاقات مع السلطنة العثمانية، ولعبت مع القوى الأوروبية.

عام 1768، أرسلت الإمبراطورة كاترين الكبرى الأسطول الروسي عبر جبل طارق لضرب الأسطول العثماني، وهو تولى قصف بيروت ودعم حملة إبراهيم باشا وضاهر العمر ضد السلطنة في لبنان وسوريا حتى تنازلت السلطنة لموسكو في أوكرانيا وشبه جزيرة القرم. موسكو السوفياتية صارت “فاتيكان اليسار” في كل العالم، لكن قائد الثورة الشيوعية فلاديمير لينين استعان برجل الأعمال الأميركي أرمان هامر في مشروع “النيب”. ستالين خاصم زعيم يوغوسلافيا تيتو، وأغلق موسكو في وجه الاشتراكيين و”التحريفيين” ليقتصر زوارها على الشيوعيين.

خروتشوف وخلفاؤه اختلفوا مع ماوتسي تونغ زعيم الصين، واستقبلوا يمينيين إلى جانب كل أشكال اليسار، وموسكو بوتين صارت مقصد الزوار والمستثمرين من اليمين، ودعمت قوى اليمين المتطرف في أوروبا، وبقيت تتمتع بدفاع القوى اليسارية عنها، على الرغم من كونها في نظام رأسمالية “الشلة” والمافيا، والسبب هو كره اليسار لأميركا ورهانه على أية قوة في مواجهتها.

روسيا “السورية” التي تلعب منذ 2015 الدور الأول في حرب سوريا صارت جارة لبنان والعراق وإسرائيل، وضاعفت جيرتها لتركيا، ومن طبائع الأمور أن يكبر دورها في الشرق الأوسط، مع انحسار الدور الأميركي، وتنامي الأدوار الإقليمية لإيران وتركيا وإسرائيل، واندفاع الصين نحو المنطقة عبر مشروع “الحزام والطريق”. ومن تقاليد الزعامات اللبنانية التي دارت وتدور في كل الأفلاك أن تتسابق نحو صاحب الدور الجديد، ففي موسكو زحام شخصيات في اليمين والوسط واليسار، والكل يطالب الروس بتوسيع دورهم في لبنان، ويطلب لنفسه دوراً معهم، لكن السؤال هو عما يستطيع الروس فعله، بصرف النظر عما يريدون فعله وما يراد منهم القيام به.

ذلك أن الثابت في سياسة الكرملين هو “زرع الشوك على طريق أميركا” وإيجاد مشكلة لها في كل مكان، والهدف هو دفع واشنطن الى التعامل مع موسكو باحترام من الند الى الند، والاعتراف بها كشريك في إدارة النظام العالمي والأنظمة الإقليمية، والمتحرك هو التوازن بين زرع الشوك على طريق الأحادية الأميركية وزرع الورود على طريق التعددية القطبية، واللعبة دقيقة جداً.

ففي سوريا وحدها تلعب موسكو مع قوى مختلفة، النظام والمعارضة وإيران وتركيا وإسرائيل وأميركا، وفي الشرق الأوسط تبحث عن استعادة مواقع قديمة في ليبيا ومصر واليمن، وتتطلع نحو بناء قاعدة على البحر الأحمر في السودان، غير أن الخرطوم تتراجع بضغط أميركي عن الاتفاق على القاعدة والذي جرى التوصل إليه أيام النظام السابق، وهي أصبحت قوة حفاظ على “الستاتيكو”.

أكثر ما يخيف موسكو هو “الثورات المخملية” على غرار ما حدث في أوروبا الشرقية التي كانت ضمن المعسكر الاشتراكي، وقفت ضد الثورة في ليبيا، وضد كل ما حدث في ما سمي “الربيع العربي”، وتدخلت عسكرياً للحفاظ على النظام السوري، وما يقلقها حالياً هو أن ينهار لبنان ويصل تأثير الانهيار الى سوريا والعراق، وطبعاً أن يكبر الدور الإيراني والدور التركي على حساب دورها، وما تلحّ عليه هو خروج القوات الأميركية من شرق الفرات، وهذا كله جزء من هموم الرئيس فلاديمير بوتين على الطريق إلى قمة في جنيف مع الرئيس جو بايدن، والجميع في انتظار تلك القمة، ولا أحد يستطيع الجزم بما يمكن أن يتفق عليه زعيمان مختلفان على أمور كثيرة، ولهما مصلحة في تخفيف العداء ومنع الصدام من دون التخلي عن التنافس.

إدارة الرئيس بايدن تركز على الصراع والتنافس والتعاون مع الصين وروسيا، والتوجه نحو الشرق الأقصى والمحيطين الهادئ والهندي، وتريد التخفيف من مسؤولياتها في الشرق الأوسط، لكنها لم تبلور استراتيجية متكاملة في المنطقة التي تلحق بها مهما حاولت الخروج منها، والكرملين يركّز على الشرق الأوسط كجزء من استراتيجية اللعب ضمن المثلث الأميركي – الروسي – الصيني، لكن سياسته في الشرق الأوسط “غير منسقة، وهي سياسة رد فعل، لا سياسة قادرة على تشكيل أجندة لمصالح طويلة الأمد”، كما تقول الأستاذة في كلية الاقتصاد التابعة لجامعة الصداقة في موسكو لودميلا شكفاريا.

والمعادلة واضحة، أميركا تعبت من دورها الكبير على الرغم من قدراتها الهائلة، والصين تلعب دوراً أصغر من إمكاناتها الكبيرة، وروسيا تلعب دوراً أكبر من إمكاناتها المحدودة، والعالم في فوضى!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button