من سيقود العالم.. صناع النفط أم صناع المعلومات؟… الخدمات الرقمية ليست مجانية ثمنها بياناتنا الشخصية!
النشرة الدولية –
قبل خمسة عشر عاماً، لم يكن عالم الرياضيات البريطاني كلايف هومبي مجانبا للصواب عندما قال إن “البيانات هي النفط الجديد”. منذ ذلك الحين وحتى الآن، زاد إجمالي كمية البيانات في العالم 74 مرة. هناك اقتصاد جديد عملاق يولد اليوم، تبدو الاقتصادات الكلاسيكية بالمقارنة معه تافهة وضئيلة.
عبارة “البيانات هي النفط الجديد” صيغت لأول مرة في عام 2006 من قبل عالم الرياضيات البريطاني والخبير في أسواق المال كلايف هومبي. ومنذ ذلك الحين، تم تناقل العبارة من قبل رواد الأعمال وصانعي السياسات. وفي العام 2017 نقل عن الرئيس والمدير التنفيذي لشركة ماستركارد أجاي بانجا، قوله أمام جمهور في المملكة العربية السعودية، أكبر منتج للنفط الفعلي في العالم، إن البيانات يمكن أن تكون فعّالة مثل النفط الخام كوسيلة لتوليد الثروة.
يرى خبراء أن تشبيه البيانات بالنفط يعود إلى أن كليهما، البيانات والنفط، كانا سببا في إطلاق ثورة صناعية. ورغم أن النفط لا يزال المحرّك الأول لعجلة الصناعة في العالم منذ اكتشافه لأول مرة وحتى يومنا هذا، إلا أن البيانات أصبحت الركيزة الأولى لقيام تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي وتطبيقاتها العديدة التي غزت كل نواحي الحياة خلال فترة قياسية لا تتجاوز العقدين.
ومثلما أن النفط بمفرده ليست له قيمة عالية، لكن القيمة تأتي من مشتقاته بعد تكريره وتصفيته، كذلك البيانات بمفردها غير مهمة، لكن جمعها في سياقات واستخراج المعلومات منها هو ما شغل العالم وغيّر المفاهيم الاقتصادية والاجتماعية وحتى الثقافية.
البيانات سلعة قيمة وقوية، وهي على عكس النفط، غير محدودة من حيث الكمية، وأيضا في قدرتها على إحداث الضرر، كما يقول الخبير التكنولوجي جيمس بريدل.
ويقدر المنتدى الاقتصادي العالمي حجم البيانات المتاحة اليوم بمقدار 40 زيتابايت، أي 40 ألف مليار مليار (رقم 40 وأمامه 21 صفرا) من وحدات تخزين المعلومات.
ولاستيعاب ضخامة الرقم، يقول المنتدى إنه يعادل المعلومات المخزّنة في خمسة مليار مكتبة من حجم مكتبة الكونغرس. ولنا أن نتخيل أن هذه الكمية من البيانات تتضاعف كلعامين.
النفط سيطر عليه في بداية اكتشافه بارونات احتكروا إنتاجه وتوزيعه، كذلك اليوم تسيطر على البيانات في جميع أنحاء العالم بعض الشركات التكنولوجية الكبرى وتحتكر تعميم تجربة استخدامها.
لا بد من أن نتساءل عن المكان الذي يتم الاحتفاظ فيه بهذه الكميات الهائلة من البيانات. في أوروبا اختارت الشركات العملاقة ضاحية دبلن في أيرلندا لإقامة مراكز بيانات موصولة بكل أنحاء القارة، وهي مستودعات لا يميّزها من الخارج أي شيء عن أبنية التخزين العادية. إلا أنها تشكّل محرّك الثورة الصناعية الرابعة وهي بمثابة النفط الجديد بالنسبة إلى الخبراء.
وتسمح هذه المراكز بالوصول على مدار الساعة والأسبوع والسنة إلى الكمية الهائلة من البيانات والاستفادة من قوة المعالجة والتخزين التي تحتاجها الخدمات الرقمية في كل أرجاء المعمورة.
وتتألف المراكز من صفوف من الخوادم المعلوماتية التي تحظى بحماية كبيرة مثل الخزانات وتبرّد بنظم تهوية، تستهلك حجما كبير من الطاقة الكهربائية، يثير مخاوف حماة البيئة.
وتؤكد شركة الشبكات الكهربائية العامة “إيرغريد” أن استهلاك مراكز البيانات من الكهرباء يعادل استهلاك “مدينة كبيرة”، وقد تشكل حاجاتها 31 في المئة من الطلب على الطاقة في أيرلندا بحلول العام 2027.
ما نشهده اليوم من ثورة تكنولوجية وتطور في الأجهزة الذكية وتطبيقاتها ما كان لنا أن نراه لولا توافر الوقود اللازم لعملها، ألا وهو “البيانات”. فكما أن النفط ساهم في ولادة الثورات الصناعية السابقة، فإن البيانات هي الوقود الجديد للقرن الحادي والعشرين.
كلايف هامبي، الذي كان أول من قارن البيانات بالنفط، كان أيضا أول من طوّر برنامج دعم للزبائن يدعى “كلوب كارد” في سوبر ماركت “تيسكو” في لندن عام 1994، وساهم برنامجه الذي اعتمد على بيانات المتسوقين من السوبر ماركت وتفضيلاتهم، ساهم في تحويل المتجر، الذي كان حينها صغيرا نسبيا، إلى أكبر سلسلة المتاجر في المملكة المتحدة.
عندما قدّم هامبي مقترحه لمدير متجر تيسكو قال المدير في حينها “ما يخيفني في هذا الوقت أنك ستعرف معلومات عن زبائني في ثلاثة أشهر أكثر مما عرفته أنا على مدى ثلاثين عاما”.
خلال تصفح أي موقع واستخدام أي تطبيق أو شراء أجهزة إنترنت الأشياء نترك أثرا رقميا خلفنا، يمثل اهتماماتنا وتفضيلاتنا، هذه الآثار الرقمية التي هي في حقيقة الأمر “بيانات” تستخدمها الشركات لتغرقنا بإعلانات توافق ميولنا. وتستخدم الشركات بيانات المستخدمين لإنتاج تطبيقات جديدة تنتج بدورها بيانات جديدة تعود عليها بالنفع.
يظن البعض أن شركات مثل غوغل وفيسبوك ويوتيوب وتويتر وغيرها من مواقع التواصل الاجتماعي تقدم لنا خدماتها مجانا دون مقابل. بينما هي في حقيقة الأمر ليست مجانية كما نظن، ولكن تقدمها بمقابل تنتزعه منا، وهذا المقابل عماد اقتصادها وهو البيانات، النفط الذي يضمن استمرار نموها.
عند استخدامنا لتطبيق الخرائط من غوغل نحدّد موقعنا، لتبدأ الشركة في تعقّب مسارنا، ومن مجموع استخدام التطبيق وتتبع مسارات المستخدمين تحسن غوغل دقة رسم خرائطها مضيفة إليها كمية هائلة من البيانات.
تقول في لي، مديرة مختبر الذكاء الاصطناعي في غوغل “البيانات جزء مهم جدا لتطوير خوارزميات الذكاء الاصطناعي والتعلّم الآلي، فالمزيد من البيانات يعني المزيد من النتائج الجيدة وتصبح الآلات أكثر ذكاء”.
البيانات هي ما يتيح لغوغل استهدافنا بإعلانات عن متاجر تقع على الطريق الذي نسلك أو المكان الذي نزور. التقنية نفسها تستخدمها شركة فيسبوك، فالتطبيق يرافقنا كالظل، يتعقب أثرنا الرقمي، لا يترك صغيرة أو كبيرة إلا ويسجلها حتى بعد الخروج من التطبيق.
هذا التعقب والتتبع المستمر للآثار الرقمية لمستخدمي الإنترنت جعل كبرى شركات التكنولوجيا مثل غوغل وفيسبوك وأمازون وأبل ومايكروسوفت تُكدّس جبالا من البيانات التي تضمن استمرارها وتفوقها على من سواها، ومن ثم استخدامها في الإعلانات الرقمية، حيث تتربع تلك الشركات على عرش سوق الإعلانات.
لقد أتاحت السيطرة على البيانات للشركات العملاقة فرصة للسيطرة على العالم الذي يشهد تحولا متسارعا نحو الأتمتة. ولكن يبقى أن نعرف أن جمع البيانات وحده لا يكفي. اكتفاؤنا بذلك سيجعل مثلنا “كمثل حمار يحمل أسفارا”.
كما النفط يجب أن تخضع البيانات إلى عملية تكرير وإعادة تصنيع، ليس بالطبع في مصافي البترول، وإنما في مصافي الذكاء الاصطناعي لاستخراج معلومات مهمّة منها.
وقد يكون مفيدا هنا أن نقدم تعريفا يميّز بين البيانات والمعلومات. يعرف المختصون البيانات بأنها مجموعة من الأرقام والإحصاءات، بينما المعلومات هي بيانات تمّ تكريرها ووضعت ضمن سياق.
بالطبع لنا أن نتخيّل أن مهمة تحويل جبال من البيانات إلى معلومات أمر مستحيل على البشر، وهنا كان دور الذكاء الاصطناعي، الذي وظف لهذه الغاية بالضبط؛ تحويل البيانات إلى معلومات تحولها الشركات العملاقة بدورها إلى أرباح مذهلة.
بالرغم من جائحة كورونا التي أصابت الاقتصاد العالمي في مقتل، إلا أن خمسا من هذه الشركات استطاعت أن تحقق أرباحا خلال عام 2020 فاقت 1.3 تريليون دولار. رقم تخجل أمامه صناعات النفط.
أمام هذا النمو الهائل في هيمنة البيانات على الاقتصاد العالمي، كرّر صندوق النقد الدولي ما قاله من قبل عالم الرياضيات البريطاني هامبي “البيانات هي النفط الجديد”.
ويمكن أن نقدر الأهمية التي تلعبها البيانات اليوم إذا عرفنا أن الوظائف الأكثر طلبا حاليا هي الوظائف المتعلقة بعلوم البيانات وتفرعاتها، حيث تشير الأرقام إلى أن متوسط مرتب العاملين بمعالجة البيانات في وادي السيليكون في كاليفورنيا تجاوز 150 ألف دولار.
صندوق النقد أشار إلى ميزتين يتمتع بهما قطاع البيانات دون غيره من قطاعات الاقتصاد التقليدية. الأولى، أن الاستخدام المستمر للبيانات لا ينقص من كميتها، بل على العكس استخدامها يسهم بمنتجات جديدة توّلد المزيد من البيانات.
والثانية، أن البيانات غيّرت من قوانين الملكية، فالنفط وباقي الموارد تملكها الدولة غالبا، أمّا البيانات فتعود ملكيتها إلى الجهات القادرة على استخراج معلومات مفيدة منها وليس لمن يملكها. وهذا ما يفسّر ظهور أعداد متزايدة من أصحاب المليارات بين الشباب.
كل ما على الشركات عمله هو الفوز بانتباهنا لتحقق المزيد من الربح. لا يهم إن كانت المعلومة صحيحة أو خاطئة، قد تترتب عليها أحيانا كوارث للفرد والمجتمع، مهما ادعت تلك الشركات الحرص على التمييز بين الجيّد والخبيث.
في عالم اليوم، حيث تجري الأمور بسرعة، أصبح جذب الانتباه أحد أهم “السلع” التي تتنافس عليها الدول. لذلك فقد سبّب تطبيق تيك توك الصيني قلقا كبيرا للأميركيين.
من يسيطر على ثورة المعلومات، يستطيع أن يسيطر على العالم، هذا الحكم الصادر عن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، سرعان ما التقطه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، وسار وفقه، فاتحا معركة مع الصين للسيطرة على التكنولوجيا الرقمية. ولم ينه خروجه من البيت الأبيض سعي الولايات المتحدة المحموم للسيطرة على ثورة المعلومات.
الموارد الطبيعية ومن بينها النفط، كان سببا في شن حروب استعمارية، واليوم هناك مؤشرات لحروب سيبرانية قد يتسبب فيها التسابق على السيطرة على الثروة الرقمية.
الرئيس الأميركي جو بايدن في جولته الحالية التي تشمل بريطانيا والاتحاد الأوروبي، يركز على تحدّين اثنين، هما الصين وروسيا، ونقطة الخلاف هي الاستحواذ على السبق في تكنولوجيا المعلومات والسيطرة عليها.
ويعمل بايدن مدفوعا بتقرير صدر مؤخرا عن لجنة الأمن القومي الأميركي للذكاء الاصطناعي، وهي هيئة اتحادية تم إنشاؤها لمراجعة والتوصية بطرق استخدام الذكاء الاصطناعي لأغراض الأمن القومي، على ضرورة أن تعمل وزارة الدفاع والكونغرس معا لتحديث طريقة تطوير برامج وميزانيات الدفاع ودمجها ونشرها لدعم الأمن القومي الأميركي.
ويوصي التقرير باستخدام الذكاء الاصطناعي لتحديث خطط الدفاع الأميركية، والتنبؤ بالتهديدات المستقبلية، وردع الخصوم وكسب الحروب نظرا إلى أنه سيتم “دمج الذكاء الاصطناعي في جميع التقنيات المستقبلية تقريبا”، ومن السهل إدراك أن تهديدات الأمن القومي والفرص التي يطرحها الذكاء الاصطناعي يجب أن تكون حافزا للتغييرات الضرورية لمتطلبات الدفاع وعمليات توفير الموارد.
في عالم يدعم الذكاء الاصطناعي، لن تكون وزارة الدفاع قادرة على تحديث الطريقة التي تجنّد بها المواهب، وتدرّب القوات وتطور وتدمج التكنولوجيا، وتمول كل هذه العناصر دون تحولات ثقافية داخلية ومساعدة من الكونغرس.
“ما لم تتم مواءمة المتطلبات والاستحواذ للسماح بتنفيذ أسرع وأكثر استهدافا، ستفشل الولايات المتحدة في البقاء في صدارة المتصارعين”.
وتوضح هذه التوصية الصريحة الموجهة إلى وزارة الدفاع تحت عنوان “تسريع اعتماد التقنيات الرقمية الحالية” الحاجة الملحة لإجراء تحديثات ثقافية وهيكلية للطريقة التي تمارس بها الوزارة أعمالها حاليا.
وأشار أعضاء اللجنة الذين جاؤوا أساسا من الأوساط الأكاديمية والتجارية، في التقرير إلى أن مصادر ساحة المعركة ستتحول من العوامل التقليدية مثل حجم القوة ومستويات التسلح، إلى عوامل مثل جمع واستيعاب البيانات المتفوقة، والاتصال، وقوة الحوسبة، والخوارزميات، وأمن النظام.
إذا كانت مقولة “المعرفة قوة” صحيحة في الأمس، فإن من يتحكم في تدفق المعلومات عبر العالم اليوم هو المنتصر في أي مواجهة رقمية مقبلة.
لم تكن حرب غوغل مع بكين حربا معزولة عن السياق العالمي الذي بدأ يتغير بصورة جذرية على إيقاع ثورة المعلومات. وفي الوقت الذي فرضت فيه الشبكة العنكبوتية نفسها كأداة معلوماتية خارقة، أسست لنوع غير مسبوق من الصدام بين القوى العالمية، سرعان ما تطوّر هذا الصراع التكنولوجي إلى صدام حضاري واقتصادي، وفي المحصلة صدام سياسي عنوانه محاولة الولايات المتحدة الهيمنة على ثورة المعلومات، وفي المقابل محاولة دول العالم الحيلولة دون ذلك.