الحرب الرمادية
بقلم: سوسن الأبطح
النشرة الدولية
هجمتان إلكترونيتان قاصمتان، على الأقل، تعرضت لهما أميركا في الشهر الأخير، جعلت على رأس أولويات الرئيس الأميركي جو بايدن، في جولته على حلفائه في القارة العجوز، رصّ الصفوف وخوض «الحرب الرمادية» التي تشتعل في الخفاء، لكنها متأججة، ومرعبة بسبب غموضها، وتكاليفها المرتفعة. إذ تكلف هذه الحرب الإلكترونية، الولايات المتحدة مليارات الدولارات، وتوقّف عن العمل للجهة التي تتعرض للهجوم متوسطه 21 يوماً، عدا سوء السمعة، وفقدان الثقة، وتعثر الخدمات. وتتهم أميركا روسيا بشكل رئيسي بالهجمات الكبيرة التي تتعرض لها، لكن الصين في الذهن وإيران وكوريا الشمالية، أيضاً. والحق أن المنازلات ضروس بين أقطاب «الحرب الباردة الجديدة» التي يبدو أنها تتخذ أشكالاً مبتكرة، وغير مرئية، لا دماء فيها ولا جثث، إنما سرقة بيانات، تدمير ملفات، وكشف أسرار، وشلل في الحركة، وخسائر اقتصادية. تشحذ كل دولة أسلحتها السيبرانية، وتجنّد مهندسيها، وتنمّي أعداد جنودها الإلكترونيين، تحسباً لمستقبل أكثر شراسة.
تقول الصين إنها تتعرض لـ800 مليون هجوم يومي، ويمكن أن تتخطى المليار أحياناً، بينما تعترف فرنسا بـ18 ألف هجوم، ولا بد أن روسيا مستهدفة أيضاً. وواحدة من أشهر الهجمات وأعتقها التي شنتها أميركا مع إسرائيل عام 2010 على إيران لشل برنامجها النووي. كانت الأهداف إزعاجاً، وتغيرت لتصبح أضراراً قد يستحيل إصلاحها.
يجند الاتحاد الأوروبي حالياً، خلايا مدربة ومنظمة في كل من بروكسل وإستونيا لأغراض دفاعية وهجومية معاً، كذلك نمّت الدول الأعضاء أجهزتها البشرية الإلكترونية لتبلغ الآلاف، بعد أن تفنن القراصنة، وتنوعت أشكال الهجمات، وبات أشهرها ما يطالب بفدية بملايين الدولارات، للإفراج عن النظام المخطوف. وبعد تسليم الأموال، غالباً ما تعاد الملفات وقد أُتلفت، وفقدت قيمتها.
وصل بايدن إلى أوروبا بعد أيام من تعرض شركة «كولونيول بايبلاين» التي تمد 18 ولاية بالوقود في شرق الولايات المتحدة. تعطلت الإمدادات عن ملايين الأميركيين لخمسة أيام، مما جعل مشاهد طوابير السيارات أشبه بالتي يراها اللبنانيون في شوارعهم الحزينة. هذا المشهد المريع لأكبر قوة في العالم، دفع الشركة للرضوخ للقراصنة الذين استهدفوها بهجوم فيروسي، ودفعت ما يفوق أربعة ملايين دولار لعصابة «دارك سايد» المهاجِمة. والمثير للضحك أن هذه الجماعة تقدم نفسها كفاعلة خير، تستهدف أصحاب رؤوس الأموال الكبيرة، للتبرع بما تجنيه للمحتاجين. لكن كل المنشآت بما فيها التعليمية والطبية، وحتى الجمعيات الخيرية تتعرض للهجوم وسرقة المعلومات.
أكبر شركة لحوم في العالم كانت هي الأخرى، قبل أيام، هدفاً للقراصنة. وتملك «جي بي إس» متعددة الجنسيات، 150 مصنعاً في 15 دولة، أضخم خمسة منها في أميركا، تعالج ما يقارب نصف كمية اللحوم التي يستهلكها الأميركيون. الشركة اختُطفت ملفاتها، واستُبيحت معلوماتها، ولم يُفرَج عنها من دون فدية باهظة.
اتهام روسيا بانتهاك بيانات أميركية رسمية، وبممارسة جاسوسية مُحكمة في كل مرة، لا يحدّ من هذه العمليات. لأنه لا أحد يستطيع إثبات من هي الجهة الفاعلة، أو بمقدوره سد كل الثغرات التي يتم التسلل منها، أو توقع ما يمكن أن تبتكره مخيلة قراصنة للتحايل على نظام ما. ومَن تابع قمة بايدن – بوتين، يلحظ أن الرئيسين لم ينفيا ما تقوم به أجهزتهما الذكية، بل اتفقا على إكمال المباحثات حول هذا الموضوع الشائك، للوصول إلى حلول، وهو ما يبدو مستحيلاً.
ذهب بايدن إلى ذاك الاجتماع التاريخي مع الرئيس الروسي، باتفاق واضح المعالم مع مجموعة الثلاثين في حلف شمال الأطلسي. وهو تطبيق البند الخامس من اتفاق واشنطن، ليشمل الهجمات الإلكترونية، وهذا أمر في غاية الخطورة.
فالاتفاق في الأصل ينص على تصدي أعضاء «ناتو» مجتمعين لهجوم مسلّح تتعرض له إحدى الدول الثلاثين الأعضاء، لكن بايدن نجح في إقناع حلفائه باعتبار أي هجوم إلكتروني كبير ضد أحد الأعضاء، بمثابة إعلان حرب، يُردّ عليه بهجوم مشترك، بما في ذلك استخدام الأسلحة التقليدية.
في فرنسا تضاعفت الهجمات أربع مرات في عام واحد، وهذا حسب المسؤولين، ليس سوى رأس جبل الجليد الذي سنراه بوضوح أكبر في السنوات المقبلة. بول ناكاسوني قائد القيادة الإلكترونية الأميركية؛ مدير وكالة الأمن القومي، على ثقة بأن النيات تغيّرت، وما كان تهديدات وإزعاجات، تحوَّل إلى حرب فعلية. ومتأكدٌ الرجل أن ثمة مخططات مبيّتة، لشلّ الكهرباء، وتعطيل عصب الاقتصاد حين تستدعي الحاجة.
أوروبا الواقعة بين مطرقة أميركا التي تريد منها مواقف صلبة باتجاه روسيا والصين وسندان مصالحها مع الدولتين الأخيرتين، سواء في الغاز أو في الاستثمارات، لا تريد أن ترى نفسها متورطة في حرب كالتي ما زالت مرارتها تحت الأسنان عند غزو العراق عام 2003، لا يُخفي الأوروبيون أن وضعهم حرج، لكنّ بايدن تمكن من انتزاع ما عدّوه «خطوطاً حمراء» لن يسمحوا بانتهاكها، وسيدافعون عنها حتى بالسلاح.
ذلك لأن دول «ناتو» ترى أن «التهديدات السيبرانية لأمن الحلف معقَّدة ومدمِّرة، وقسرية، ومتكررة بشكل متزايد». ولولا ذلك لما اتفقوا على ما سموها «سياسة دفاع إلكتروني شاملة». فقد بات التهديد يلف العمليات الانتخابية والحياة الديمقراطية، وتمارَس عليهم، حسبما يقولون، الضغوط والترهيب السياسي والاقتصادي، وتُشنّ ضدهم حملات التضليل الواسعة، ويتعرضون لمختلف أنواع التخريب من مجرمي الإنترنت.
مفردات يستخدمها الغرب، غاية في الحزم والقسوة، وردود مقابلة ليست أقل شدة، والاتهامات متبادَلة. فهل تكون الهجمات الإلكترونية سبباً في حروب تقليدية، أم تبقى فضائية، وتُفدى بالمال والبيانات العنيفة؟
*أستاذة في “الجامعة اللبنانيّة”، قسم “اللغة العربيّة وآدابها”، صحافيّة وكاتبة في جريدة “الشّرق الأوسط”