أفكار متقاطعة: يكتبها ناجي الخشناوي “حياة أخرى لعمر مضى” لريم قمري: نساءٌ من حبرٍ… رجالٌ من ورقٍ
النشرة الدولية –
بين الحديقة الفسيحة للشّعر والبيت العالي للسّرد القصصي تتجوّل الشّاعرة/الكاتبة ريم القمري مطمئنّة البال وهي ترفل في لغتها المطرزة بالمجاز والتكثيف، والتي تيسّر لها حركتها/كتابتها بين السياقين، الشعري والسرديّ، في مجموعتها القصصية الأولى الصادرة منذ أيام عن دار الكتاب التي اختارت لها من العناوين “حياة أخرى لعمر مضى”، مجموعة تدشّن بها الكاتبة حضورها الحبريّ في حلّة مغايرة بعد أن وطّنت أفقها الشّعري من خلال مجاميعها الشّعرية السابقة: “النساء انتظار” الذي صدر سنة 2013 في الجزائر، و”على جسدي وشمت تمائمي” الذي صدر في العراق سنة 2016، و “ما لم يقله الحلم” الذي صدر في مصر سنة 2018.
وعلى امتداد كامل المجموعة القصصية “حياة أخرى لعمر مضى”، التي ضمّنتها الكاتبة 15 قصة قصيرة، سيجد القارئ نفسه كأنّه أمام خزانة عتيقة، جواريرها مليئة بقصص وحكايات أجساد في مهبّ الرّغبات أو الانكسارات، وسيتابع القارئ حركات الكاتبة وهي تفتح جوارير خزانتها العتيقة وتنتقل بمهارة بين الشّعر والسّرد تماما مثلما تدخل وتخرج الأرنب من القبّعة في يد السّاحر الماهر. فهذا التّنافذ اللاّفت بين السّياقين هو السّمة الرئيسيّة والمميّزة لأسلوب ريم القمري في كتابتها القصصيّة، فهي لا تتخلّى عن لواء الشّعر ولا تستسلم لسطوة السّرد، بل هي تمزجهما في كيمياء دقيقة تنقذهما، الشّعر والسّرد، من مأزق “صراع” الأفضليّة والأوليّة والمواجهة الموهومة التي ما زالت تُباعد بينهما تحت اليافطة التاريخيّة الكلاسيكيّة -لا الجماليّة- “الشّعر ديوان العرب” و”الرواية ديوان العرب الجديد”، فالكاتبة ريم القمري تُسقط هذا التّباعد الجاحد لينتصر الجماليّ في نصّها، وهو أيضا “انتصار” مضموني سيكتشفه القارئ مع كل قصّة من مجموع قصص الكتاب، انتصار للأجساد المنتهكة تحت سياط رُهاب الحب، وللجميلات الأسوأ حظا واللّحم الذي مزّقته السّكاكين الصّدئة، وللحيوات المُنغّصة التي تمنحها الكاتبة حيوات أخرى وهي تبثّ فيها هذا الأوكسيجين الشعري/السرديّ.
ودون مواربة، تُدخلنا الكاتبة ريم قمري عالم “الجنس المحرّم” منذ القصة الأولى، بل تضعنا وجها لوجه أمام أخطر الاعتداءات الجنسيّة التي يمكن أن تحدث، إنّه “زنا المحارم”، فبطلة القصّة الأولى “الجسد الماخور” التي تعلن لنا منذ البداية أنها ساديّة ومريضة نفسية، وهي تصدمنا بقتل وحرق عصفور كناري ضعيف، هي في الأصل ضحيّة أكثر ضعفا وأكثر هشاشة من الكناري، فحسناء الجبل التي صارت مرتعا للوحوش الآدمية “شبّت كزهرة بريّة مهملة وسط حقل شائك” بعد أن انتهك حرمة جسدها الطفولي -وهي في الثانية عشرة- زوج أمّها، فهي مثلما تعلمنا قائلة عن حياتها التي مضت: “لأكثر من ثماني سنوات متتالية كنتُ ماخورا لزوج أمي”، وعندما ننتبه إلى تركيب عنوان القصّة، وخاصة إلى حياديّة مفردة “الجسد”، سنتفهّم أن البطلة/المغتصبة لم تفقد فقط براءتها وطفولتها وحرّيتها الجسدية زمن اغتصابها وطيلة زمن تكرّر الفعل لاحقا، سواء من زوج أمّها أو من إرهابيي الجبل، إنمّا هي فقدت مطلقا علاقتها بجسدها وبتفاصيله، ولذلك يبدو الجسد في العنوان باردا وجافّا ومحايدا، على نقيض حضوره الطّاغي في متن القصّة في رواية السّاردة/الضّحية التي تعلمنا أنّه “منذ أن أصبح جسدي منتهكا أدركت أنه عليّ أن أحوّله إلى حقل ألغام، وأضرم النار في روحي”، بل هي تستبطن نهائيا حياتها اللاحقة التي سطّرها العمر الذي مضى، فهي “طفلة الخطيئة الأبديّة”، وهي لا تحتاج إلى “مغفرة فات أوانها”، وهي التي حملت جمالها نقمة وصارت تمزّقه بأظفارها وتوزّعه على الذّئاب النّاهشة: قادة رفيعي المستوى وأجساد عابرة من كتائب الإرهابيين وقد صارت حسناء الجبل تقوم بجهاد النكاح المقدّس ويأخذ جسدها شكل الماخور الجاهز دائما وتحت الطلب مثل الآلة الجامدة، ولذلك أيضا تبدو مفردة “الماخور” في عنوان القصّة مثقلة بالدّلالات، فالماخور لم يعد ذاك المكان المحايد الذي تتهالك بين جدران غرفه أجساد عاملات الجنس، بل الماخور هو الجسد ذاته، الجسد الذي تحوّل إلى رماد تماما مثل عصفور الكناري.
ويظلّ العمر الذي مضى “رهين” الطّفولة المُغتصبة التي ترسم ملامح الحياة اللاّحقة في القصّة الثّانية “الآلهة لا تشارك الأطفال ألعابهم”، لكنّه يأخذ بعدا آخر وشكلا آخر، فنحن أمام اغتصاب لذاكرة الطفولة، فبطل القصة الذي غادر طفولته وأصبح على مشارف الثلاثين من العمر يستجدي ذاكرته أن تسعفه ببقايا حلُم سكنه قبل ان ينتقل إلى “بيت من الطراز العصري”، حلُم توقف حين فقد براءة طفولته، حين فقد جسد الطّين وتخلّص من رائحة الصّلصال في دمه. إنّنا أمام طفولة المكان أو مكان الطفولة، ذاك الوشم العصيّ عن المحو أمام الكشْط المستمرّ لممحاة الزّمن، ونحن إذ ننتقل من مكان إلى مكان آخر نظلّ دائما نحمل المكان الأول في داخلنا، أو مثلما قال الشاعر أبو تمام “كم منزل في الأرض يألفه الفتى/ وحنــينه أبدا لأول منزل”، ولكن الكاتبة ريم قمري لا تسرد علينا في هذه القصة حكاية “رومانسية” أو نوستالجية لذاكرة أرهقها اللامكان في حياتها الأخرى فاستنجدت بما مضى من عمر المكان الأول، بل هي تسرد علينا “أنّات” جسد متشظّ، جسد جنديّ بالجيش الوطني ضمن فرقة مقاومة الإرهاب، تبحث في أطرافه الممزّقة تحت الوشاح الأبيض المضرّج بالأحمر عن صورة أمّه/وطنه، ذاكرة جسد كان يلعب مع الله دون حواجز تحجب عنه وجه الله القريب منه في صحن الدار القديمة “قبل أن ينفجر اللّغم” ويحوّل جسده إلى أشلاء، تماما مثلما أصبح الله “رهينة” في يد المتكلّمين باسمه والمستحوذين على أهليّة توزيع صكوك الغفران، والكاتبة تمهّد لهذا “الانقلاب الوجوديّ” لوطن برمّته من خلال رمز من رموزه دون أن تقول لنا ذلك بشكل مباشر، فالكاتبة تتشبّث بتفاصيل يوميّة لبطلها في علاقة بأمّه وجدّته وجدّه وأبيه وسجائره وعادته السرية… وحياته العاديّة -مثل أي طفل- لكنّها تنزاح بنا نحو تأويل لا مناص منه عندما تجعل بطل قصّتها يسقط تحت وطأة “حلم ظلّ يتكرّر باستمرار وبصفة شبه دورية”، ولم تكتب ريم قمري كلمة كابوس أو أضغاث أحلام، لكنّها تجعل قارئ القصة يتخيّل سقوط سقف الصالون في البيت الجديد لبطلها، وتترك وجهه باسما نحو السماء ليحتضن الله كما كان يراه دائما، وتترك لقراء القصة حريّة تأويل سقوط هذا السّقف الوطنيّ ليحوّل الأحلام الشّعبية البسيطة إلى حطام وركام تحت أنظار الإله الذي “يجب أن نراه” بأعين زارعي الألغام والفتن لا بقلوبنا الطفوليّة، ولذلك “تخلّت السماء عن بياضها واختارت الأحمر”… إن الكاتبة تضعنا أمام المفارقة، والثنائية الضدّية والبساطة الآسرة ورمزية الغموض… وهذه الأساليب هي العنوان الأبرز للشّعرية السردية.
ويرتفع الإيقاع الشعري في القصة التي استأثرت بعنوان المجموعة كاملة “حياة أخرى لعمر مضى”، بل إن الكاتبة ريم قمري -وهي تضمّن الشّعر في هذه القصّة وتستحضر عشقها الأول- وكأنّها تتماهى مع بطلتها التي تستحضر بدورها عشقها الأوّل وتعيش مغامرة محفوفة بالذكريات والعشق توقّف معها الزمن وعادت صبيّة العشرين في عينيها وعينيْ عشيقها الأول ذاك البريق “الذي يرفض الانصياع لحكم الزمن على الأجساد”، وكأنّ الكاتبة أيضا تعلن لنا من خلال هذه القصة أنها لم تقترف جريمة خيانة الشّعر ولغة المجاز العالي، تماما مثلما هي بطلة قصّتها تنتصر لجسدها الذي أصبح مستهلكا وقد امتهن “خدمة الآخر”، وتنتصر لزمنها الذي مضى هدرا مع “زوج صالح بمقاييس المجتمع” ممعن في حياد مطلق وغارق في طقوسه اليوميّة، لذلك كان لا بدّ للكاتبة أن تقدّم لنا مغامرة “امرأة متقاعدة تريد سرقة الوقت واستعادة حلمها في أن تكون شاعرة، حلم سرق منها دون أن تحسّ وظلّ عالقا غصّة في قلبها”. والكاتبة لا تكتفي بإيراد مقاطع شعرية في هذه القصة، بل تخلق إيقاعا داخليا من خلال الحوار الذي يدور بين العشيقين، والذي يبدو في ظاهره مقتضبا، في حين أن الكاتبة تكثّف فيه المعاناة الوجودية للشّخصيّتين، وتمنحهما، من خلال الحوار، فسحة ليقتنصا حياة أخرى من عمر مضى وقد مكّنت جسديهما من “قدرة غريبة على القفز عبر الزمن” إذ “لا بدائل في الحب/العشّاق مجانين/يحتالون على الحب بقصيدة”.
والتشبّث بالجسد لغة للإقامة في هذا العالم، يظلّ العنوان الأبرز في كتابة ريم قمري، ففي قصّة “سباحة في البياض” تضعنا الكاتبة مرة أخرى أمام جسد معطوب وذاكرة مرهقة بالأحزان والآلام، بل هي تعمن في ذلك عندما تطلق اسم “دنيا” على بطلة قصّتها، فهذه الدنيا لم تعد تحسّ بجسدها الملتصق بخشبة النجاة في عرض البحر، لأنها لم تعد تحسّ بالحزن في أعماقها بعد أن مات منذ زمن بعيد، وهي المسحوبة نحو الأسفل لا تقوى على مقاومة التيّار يجرفها بعيدا عن الوطن، وما هذا التيّار سوى عقاب الأم/العائلة/المجتمع لدنيا على اقترافها لجريمة الحب، عقاب لها على الإنجاب خارج إطار الزواج ولذلك سرقوا أمومتها ومَرَسوا شهوة جسدها وأفسدوا سكرتها بنشوة الحبّ والتجربة لتجد نفسها مدفوعة نحو “الحرقة” إلى إيطاليا من أجل ابنتها، ونتقفّى أثر رحلة حياتها الأخرى التي أصبحت تدور في فلك الانتقام من الحياة ذاتها بعد أن فقدت حياتها الطبيعيّة.
الحبّ معضلة كبيرة، هكذا تنبّهنا الكاتبة ريم قمري على لسان بطلة قصّة “هشاشة”، بل ربّما ريم قمري على امتداد كامل مجموعتها القصصيّة تدور في فلك الحب المنذور للشّقاء والأجساد المسيّجة بالرّغبات المقموعة والتّجارب المشلولة، وربّما لذلك تبدو أغلب شخصيّات قصصها تحمل هشاشة في أعماقها، شخصيات “تصمت وداخلها يغلي كمرجل على نار ملتهبة”، بل شخصيّات “تقامر بكلّ يأسها بحثا عن ثأر وهميّ”، شخصيات “ما عادت قادرة على تحمّل هذه الحياة”، شخصيات حياتهن “أهشُّ من جناح فراشة حين نعشق”… والكاتبة وهي تقدم لنا هذه “النماذج” المهزومة من الشخصيات الأنثوية المقموعة والمغدورة والمستباحة لا تتورطّ معهنّ الكاتبة في أفقهن اليائس أو المستسلم، بل إن الإحساس الذي تمنحه تفاصيل حكايات هذه المجموعة يتجاوز إحساس التعاطف مع شخصيّات ريم قمري إلى الإحساس بمناصرتهنّ، فهنّ وإن تعاهدن على حرق خساراتهن في الحب على الورق للتشفّي، فإن الكاتبة تذكي نار حكاياتهن للقارئ الذي سيتأكّد حتْما من أن الفشل في لعبة الحب سيفضي إلى لعبة الموت ومسك معوله الذي يحطّم كل شيء، وأن الجسد ليس فقط هو الوجه الآخر للحب، بل هو الوجه الحقيقي للحب، تماما مثلما الشعر هو الوجه الحقيقي للسرد.
لا تتسلّى الكاتبة بلعبة الحب وهي تألّف قصصها، ولا تستعين بفكرة الحب على الكتابة، بل تكتب ريم قمري في مجموعتها القصصيّة الأولى “حياة أخرى لعمر مضى” معادلتها السّرديّة، فيها رجال من ورق في قصص حبيسة الكتب، ونساء من حبر يرقصن حرّيتهن على الورق المكتوب بخطّ اليد، وتظلّ الكاتبة تُلاعب حجاب الواقع/الخيال بينهما، تماما مثلما تلاعب الذاكرة الحجاب بين العمر الذي يمضي والحياة التي تأتي، وما بينهما نستمرّ في رحلة “ابتكار طريقة جديدة للنّسيان”.