الأديب الموسوعي اللبناني مارون عبود كما يراه حفيده بعد مرور 60 عاماً على رحيله
النشرة الدولية –
الشرق الاوسط – سوسن الأبطح –
الأديب مارون عبود المتسامح، المنفتح، الثائر على الطائفية، الذي سمى ابنه محمداً، غير آبه بالاعتراض والاستهزاء، مواجهاً غضب الناس، كانت عائلته تؤهله ليصبح كاهناً، وأدخل المدارس الدينية الواحدة تلو الأخرى ليصل إلى هذه النتيجة المرجوة لكنه تمرد، بعد أن تعرف في «مدرسة الحكمة» على أصدقاء من ديانات ومذاهب متعددة. وعند بدء الحرب العالمية الأولى، وكان حينها صحافياً، توقف عن الكتابة وانكفأ في قريته عين كفاع، ليعود في تلك الفترة الصعبة مزارعاً، جل ما يطمح إليه، هو الحفاظ على عائلته، ومساعدة أهالي قريته. ومارون عبود الذي عرف بعلبة عطوس ترافقه، ما كان يفعل ذلك، إلا ليتمكن من إيقاف تدخين السجائر بعد أن تقدم في السن، وبدأ الجفاف يزحف إلى دماغه، ويتسبب له بحالات دوار وإرهاق يمنعانه من الكتابة. ذاك كان ألماً شديداً للرجل الذي اعتاد الكدح والتعب، وهو يجد نفسه عاجزاً، عن إتمام صفحات أراد إنجازها من كتابه الأخير «فارس آغا» وكأنه في سباق مع الموت. كواليس مارون عبود رواها حفيده الإعلامي وليد عبود، الذي استضافه «المركز اللبناني للتراث» في «الجامعة اللبنانية الأميركية» في ندوة حملت عنوان «ورقة من سنديانة مارون عبود»، بمناسبة مرور ستين سنة على رحيل الكاتب الكبير، حاوره خلالها مدير المركز الشاعر اللبناني هنري زغيب، وبثت على «زوم».
كان لمارون عبود القاص والشاعر والناقد والمترجم، الذي تنقل بين الأنواع الكتابية، هواية أثيرة، وهي أن يضم إلى منزله ما استطاع من الأعمال الفنية من تشكيلية ونحتية، فقد كان صديقاً للتشكيليين، والمصورين، الذين يزورونه في قريته، ويلتقطون له الصور ويضيفون إلى منزله العائلي المزيد من الأعمال التي لا تزال تزين كل غرفه، خصوصاً قاعة الخالدين التي كان لها موقعها الأثير في نفسه، لاتساعها، حيث يستقبل كبار زواره، ووضع في صدرها لوحة العادات والتقاليد اللبنانية التي رسمها له الراهب اللبناني نعمة الله المعادي، وهو من أوائل اللبنانيين الذين رسموا البورتريه في النصف الأول من القرن الماضي، كما زين له الأسقف والجدران برسوماته، مما استغرقه ثلاث سنوات، حيث ازدانت الصالة بوجوه شخصيات تاريخية مثل صلاح الدين الأيوبي، فخر الدين الثاني وبشير الثاني، حيرام وزنوبيا، ومشاهد طبيعية من الأرز، صنين، قلعة بعلبك، نهر بردى، قلعة تدمر، الجامع الأموي، ومن العراق، والحجاز، ومصر، وجامع قرطبة، وقصر الحمراء في الأندلس.
ولد مارون عبود في عين كفاع عام 1886، جده لأبيه هو الخوري يوحنا عبود، وجده لأمه الخوري موسى عبود، وأريد له أن يكون رجل دين على مثالهما، ألحق بمدارس عدة حول عين كفاع، لكن لشقاوته لم يكن يصمد في مدرسة واحدة أكثر من سنة، إلى أن أقنع عائلته بالالتحاق بمدرسة الحكمة في بيروت، واستمر فيها أربع سنوات، حتى عام 1906، كان لها أكبر الأثر على حياته، حيث تمكن من كسر القيود العائلية، وبدء رحلة البحث عن الذات. أحب الصحافة باكراً، وحاول وهو تلميذ أن يصدر بإمكانياته البسيطة مطبوعة بدائية انتقادية سماها «الصاعقة»، ثم سرعان ما أصبح محرراً لصحيفة «الروضة» وهو في الحادية والعشرين، ومن ثم «النصير»، تلتها «الحكمة»، إلى أن حلت الحرب العالمية الأولى عام 1913، فترك كل شيء وعاد إلى قريته ليلتحق بعائلته ويبقى معها، ويرجع مزارعاً كما والده، منعزلاً في الجبل، حيث خاض نضالاً ضد الدولة العثمانية. وبقي هناك حتى إعلان لبنان الكبير عام 1920، فبدا له أن حياته يمكن أن تعود وتأخذ مجراها الطبيعي.
كل ذلك شرحه وليد نديم عبود، متحدثاً عن جده مستعيناً بعشرات الصور التي جمعها. وهي بالفعل فرصة نادرة للاطلاع على ألبوم مارون عبود الشخصي الذي في حوزة العائلة، ويمكن من خلاله استنباط الكثير من المعلومات، خصوصاً بمعونة الحفيد الذي كان له دور في نشر كتب لمارون عبود بعد وفاته كما أنه حضر أطروحة عنه. ورغم أنه لم يعايش الجد إلا أن والده نديم كان صلة وصل أمينة بين جيلين، حيث نقل له هذا الإرث كي تبقى الذكرى حاضرة والمعلومات نضرة.
إضافة إلى الصور، جولة على البيت العائلي في بيت كفاع، وزيارة لغرفه ومقتنياته، ومحتوياته الثمينة من أعمال فنية، وكتب وأثاث لا يزال صامداً كما تركه الجد.
البيت الحجري الأبيض بشرفاته وهندسته الخاصة، في عين كفاع، كان يعتبره مارون عبود أحد أهم إنجازاته، وكذلك ما ضمه إليه من أعمال فنية. ومما كان يعتز به كثيراً أيضاً، مكتبته التي كان يحرص على أن ينميها ويرفدها بكل قيم من المؤلفات والمخطوطات. كان يقضي شتاءه في عاليه، حيث يعمل معلماً، وصيفه في عين كفاع، يعكف على كتابة مؤلف أو اثنين في عطلة الصيف، وينهل من «أحاديث القرية»، ومشاغل الأهالي، ويستوحي من همومهم وقصصهم، ونوادرهم. يوم مارون عبود في عين كفاع، لم يكن استرخاء، وعطلة بين أحضان الطبيعة بل عمل ونسك وترهب، من السادسة صباحاً حتى الثانية عشرة يبقى في مكتبه منصرفاً للتأليف، وحين ينادى به إلى الغداء، يطلب من ابنه نديم أن يتحسس رأسه إن كان يغلي بعد ست ساعات من التفكير. وما لا يحكي كثيراً عن مارون عبود أنه كان فاعلاً ونشيطاً في متابعة القضايا المعيشية اليومية لأهالي قريته، فقد كان له دور في تمهيد طريق تسهل وصول السكان إلى قريتهم، ويتابع مشاكل الماء والكهرباء، وباقي الخدمات.
لم يكن القدر إلى جانبه حين اختطف منه زوجته عام 1932، وأطفاله لا يزالون صغاراً فعهد بمحمد إلى عمته في القرية واصطحب معه الآخرين نظير ونديم إلى مكان عمله في عاليه. أما زياراته إلى القرية غير العطلة الصيفية، فلم تكن تتعدى الزيارتين في عيدي الميلاد والفصح، لصعوبة المسالك، ووعورة الطريق. لكن في الصيف كانت القرية تتحول إلى قبلة للأصدقاء الذين تسوقهم المحبة إلى ذاك الجبل في بلاد جبيل، يقضون الليل تحت السنديانات الأثيرة التي رعاها عبود بعنايته. وعبود لم يعش أبداً منصرفاً للكتابة، كما يمكن أن يظن البعض بسبب كثرة نتاجه، فقد اشتغل معلماً من عام 1923 حتى أنهكه المرض، وتوقف سنة 1959، ليسلم الروح بعد ذلك بأربع سنوات.
ستون سنة مرت على رحيل الأديب الموسوعي مارون عبود الذي تنقل بين الأجناس الأدبية بعفوية ومهارة. من يومها لم نر شبيهاً لأسلوبه الساخر، وصوره الكاريكاتورية، وشخصياته القروية ولغته المرصعة بما تظنه عامية، لكنك تبهر حين تعرف أنه كان ينقي ويغربل، ويصغي لمن حوله، حتى يصل إلى نص أقرب ما يكون إلى الذائقة العامة. واستحق لذلك أن يكرس بين الكلاسيكيين الكبار عن جداره، وأن يصبح جزءاً أساسياً من المنهاج المدرسي الأدبي اللبناني. كان موهوباً، متنوعاً، وفناناً بحق، وكاتباً غزيراً ترك ما يناهز ستين كتاباً، فيها إضافة إلى فيض سلاسته، عمقه الإنساني، وانغماسه الأصيل في بيئته.
عبر الصور التي عرضت في الندوة، تمكنا من تتبع مسار صاحب «أقزام وجبابرة» من يوم كان طفلاً إلى مماته، وزيارة منزله في قريته عين كفاع من خلال جولات في طوابقه، حيث تحافظ العائلة على هذا المنزل، كما كان. فهو بمثابة متحف لا يزال مكتب مارون عبود ومكتبته والغرفة التي كان يعمل فيها، كما هي، وعدة الكتابة موجودة على الطاولة، كأنها تنتظر عودته.
عانى كثيراً، في نهاية حياته، ليتمم كتابه «فارس آغا» بسبب الجفاف والدوار والإرهاق. كان متمسكاً بالأمل والابتسامة لا تفارق ثغره، حريصاً على أن يبقى بين أفراد عائلته. روح عبود الطيبة، وشخصيته المرحة، أمدته دائماً بالقوة. لكنه في الأشهر الأخيرة، وقد بلغ منه الوهن مبلغه، أوصى أولاده أن لا يسمحوا لأحد بالدخول لرؤيته في غرفته ضعيفاً، مريضاً.
إضافة إلى قيمته الأدبية، مارون عبود نموذج للكاتب الكادح، والقروي الأصيل، والمعلم المخلص الذي كتب العديد من نصوصه في خدمة طلابه، والأب الذي لعب دور الأم أيضاً ليربي أولاده. كل وجوه مارون عبود مشرقة، لهذا يعود إليه حفيده وليد كلما شعر أن اليأس يتسرب إليه، ليستمد من جده الصلابة والعزيمة. ومارون عبود هو كذلك لقرائه ملجأ منه ينهلون الشجاعة وحب العمل والحياة.