إضاءة على مَشهدٍ في الاردن… الحسين يرحمه الله، والمخيمات
بقلم: د. سمير محمد أيوب
النشرة الدولية –
أجمل ما قرأت في هذا القيظ السياسي الإقليمي، المرافق لقسوة صيف يشي باللامعقول، قرأته في مخزون ذاكرة الدكتور حسين عمر توقه، الباحث في الدراسات الاستراتيجية والامن القومي في الأردن، بألم وحرقة أهدي حقائقه ودلالاته النبيلة، لكل المتصيدين بسوء نية او عن جهل، في وهم مضى، وغبارِ واقع صعب، وفي بعض ضباب قادم الأيام، علّهم هُنا وهناك، عبر ضفتي نهر الاردن، يفيقون من سباتهم الذي طال، وأضغاث احلام أجندتهم التي تستطيل، او يرتدعون من خشية الله والأهل والقانون.
يقول الدكتور توقه لا فضَّ فوه، وهو خير من قال في هذا الشأن:
في صيف عام 1973 الحار، وفي الساعة التاسعة صباحا تقريبا، رن جرس الهاتف في منزلي، وما أن التقطتُ السماعة، فاجأني مأمور مقسم الديوان الملكي، وأخبرني بأن جلالة الملكة علياء رحمها الله، تريد التحدث إلي. في تلك الأثناء كنت أشغل منصب قائد وحدة الأمن والحماية الخاصة في المخابرات العامة. وكان واجبي الرئيس توفير الأمن والحماية السرية لجلالة الملك الحسين رحمه الله. ولقد سمعت صوت جلالتها وهي تردد بقلق “حسون الحق… إلحق سيدنا رايح على البقعة”. وقمت فورا بالإتصال بمقسم المخابرات العامة، وطلبت منه أن يبلغ ضباط وحدة الأمن والحماية بالتوجه فورا إلى مخيم البقعة.
ولا أعلم ما هي السرعة التي كنت أقود بها السيارة. كنت أفكر فقط في كلمات الملكة، وكان همي الوحيد، أن أسابق الزمن في الوصول إلى مخيم البقعة. وما أن وصلتُ مدخل المخيم، شكرت الله لأنني تمكنت من الوصول إلى المخيم قبل جلالة الملك الحسين رحمه الله. وكان كل شيء يسير على طبيعته، ولا أثر لأي شيء غير طبيعي. وبدأ ضباط وحدة الأمن والحماية الخاصة، بالوصول تباعا إلى مدخل المخيم. وبعد دقائق بدت وكأنها أطول من الساعات، وحبات العرق البارد تتصبب فوق ظهري، أطلت سيارة الملك المرسيدس السكنية، والحسين يقودها وبجانبه شخص أجنبي، وفي المقعد الخلفي هناك إمرأة أجنبية.
وترجل الحسين من سيارته. وابتسم لي وكأنه يقول “شو هاللي جابك لهون؟؟”. وأخذ يمشي في الشارع الرئيس لمخيم البقعة، وما هي إلا ثواني معلومات، ارتفعت فيها أصوات الناس بالصراخ الملك، الملك حسين. وتجمعت الحشود التي لا تعد ولا تحصى. وحضر المختار والوجهاء. وأحاطوا بالحسين يحاولون تقبيله والسلام عليه. وتوجهنا كالموج الهادر، إلى قاعة كبيرة بين هتاف الجماهير. ووقف الحسين فوق طاولة من الخشب. وأخذ يخطب بالناس ويحييهم، وأهل المخيم لا يصدقون أن الملك الحسين في ضيافتهم.
في تلك الأثناء كان السيد أرنولد دي بورشغريف رئيس تحرير مجلة (النيوز ويك) الأسبوعية الأمريكية، قد حاول منذ مدة طويلة إجراء لقاء مع جلالة الملك الحسين رحمه الله، من خلال المكتب الإعلامي الأردني، ومن خلال السفارة الأردنية في واشنطن، ولقد أعد رئيس التشريفات الملكية معالي السيد ينال حكمت في تلك الحقبة، برنامج اللقاء الصحفي.
ولدى وصول الصحفي الأمريكي إلى الأردن، تصحبه زوجته وهي مصورة محترفة مشهورة، لا تقل شهرة عن زوجها، تم الإتفاق أن تجري المقابلة الصحفية، من خلال إفطار عمل في قصر الندوة، بحضور جلالة المغفور لها الملكة علياء، ملكة القلوب رحمها الله.
وعلى مائدة إفطار بسيطة، تتكون من الزيت والزعتر والحمص والمتبل والجبنة النابلسية والعسل والزبدة، والشاي المغلي مع رائحة النعنع، في إستكانات صغيرة، قام الصحفي الأمريكي بتوجيه العديد من الأسئلة حول أوضاع الشرق الأوسط، وإحتمالية نشوب حرب جديدة، وكانت زوجة الصحفي تقوم بأخذ الصور من زوايا مختلفة، وفجأة قام الصحفي الأمريكي بطرح سؤال إلى جلالة الملك: “هل هناك فعلا مناطق في الأردن، محرمة عليك” ، وأعني أنك لا تستطيع زيارتها مثل مخيم البقعة ؟؟؟
وساد صمت ثقيل للحظات، بدت وكأنها أطول من الدهر ذاته، أخرج الملك خلالها سيجارة من باكيت الدخان أمامه، وأشعل السيجارة وأخذ أول “مجة” منها، ونظر بكل هدوء في عيني أرنولد وهو يسأله: هل أنهيت تناول الإفطار؟! ونهض الحسين، ولم ينتظر إجابة أرنولد، وقال له سوف نتوجه الآن إلى مخيم البقعة. وأصدر توجيهاته أنه لا يريد من الحرس الملكي مرافقته في هذه الزيارة المفاجئة. وانطلق الحسين بسيارته التي يقودها بنفسه.
كان أرنولد يرتجف خوفا في أعماقه. وأمضى الطريق وهو صامت، كانت زوجته حائرة وخائفة في نفس الوقت. لم يتوقع الإثنان من الملك أن يتخذ هذا القرار بالتوجه إلى مخيم البقعة، بدون حراسة.
ولدى وصول الحسين إلى المخيم، انغمست المرأة في عملها، ونسيت خوفها، وظهرت الإبتسامة فوق شفتيها، بينما كان زوجها مشدوها شارد الفكر، وهو لا يصدق ما يجري أمام عينيه، وهي تلتقط الصور لتغطي أعظم حدث على أرض الواقع، بين الملك الإنسان وبين أبناء شعبه، في لقاء عفوي، تحول إلى تظاهرة حب وإيمان بالوطن، بالأردن الذي تقاسم لقمة العيش مع أخوانه من أبناء فلسطين.
وانتهى اللقاء في مخيم البقعة. وتوجه الحسين نحو سيارته محمولا على الأكتاف، بين الجموع الغفيرة التي تهتف بحياته. وتابعنا سيارة الملك وهو يتجه إلى مخيم الحسين، ومخيم الوحدات، وانتهى بنا المطاف في مخيم شنلر، في تمام الساعة الثالثة عصرا، والمشهد يتكرر. الجموع الغفيرة تهتف بحياة الحسين الإنسان، بين أبنائه وشعبه.
هكذا كان رد الحسين، على سؤال الصحفي الأمريكي: هل هناك فعلا مناطق في الأردن محرمة عليك، وأعني أنك لا تستطيع زيارتها مثل مخيم البقعة؟!
يا اصحاب الهويات المُمْعِنَة في التشظي، الوطن ليس خرابيش زُطٍّ رُحَّلٍ، بل مضارب كريمة، لقبائل وعشائرعربية، متجذرة الوطنية، يتسع كل شق فيها، لكل بنيه وشركائهم وضيوفهم.
ايها الليكوديون على حافَّتَيْ المشهد إرحمونا، لا ترجمونا بكلام يوغر الصدور، ويشعلها لسنين طوال. كلنا غربي النهر أردينون في المملكة الاردنية الهاشمية، وكلنا شرقي النهر فلسطينيون في هذه المملكة العتيدة. لا فك ارتباط سياسي مرحلي يلغي هويات أيٍّ من أهله، ولا يشطب انتماءات وولاءات. ومثله تماما قرار وحدانية التمثيل الشرعي.
ايها الشكاؤون والبكاؤون أينما كنتم، لن تختزلوا وعينا الوطني ولا القومي ولا الانساني، ولن تشوهوا مرتكزاته ولا مضامينه ولا تبعاته، ولن تحرفوا بوصلته . تكفينا جائحة الكورونا، والضيق الاقتصادي، وقسوة لهب تموز وآب.
تبا لكم وألف تب، ستبقى عيون المخلصين في هذا البلد، ترحل كل يوم الى عروس المدائن، وإلى كل حبة تراب عربية محتلة. سُحقا لكم، وستبقى عيوننا ترقب بحذر شديد، تربص أعدائنا التاريخيين بنا، والمعاصرين منهم والعابرين.
إرحمونا يا هداكم الله.