خواطر في الصحراء: الفارابي بستانياً
بقلم: سمير عطا الله
النشرة الدولية –
إلى سنوات وعقود تصدرت القاهرة وبيروت حركة النشر في العالم العربي. وكان مصطفى أمين لا يخفي إعجابه وقلقه معاً، من أن مدينة صغيرة تنافس البلاد المصرية ودورها التاريخية. ولم تكف المنافسة. وظلت أسماء مثل «مدبولي» و«الشروق» تطاحن بيروت. ثم بدأت منافسات أخرى. وراحت الشارقة تبرز عاماً بعد العام كحاضرة ثقافية مليئة بالحيوية، يقوم على نشاطها وطموحها الحاكم نفسه، الشيخ القاسمي، الذي افتتن بالآداب والأبحاث والتاريخ قدر انهماكه في الإنماء والتحديث.
لكن «لأسباب موضوعية» كما يقول الماركسيون، ظلت السعودية مركز النشر العربي على نحو لا يصدق. وتمثل شركتا «جرير» و«العبيكان» ظاهرة من ثلاثينات النشر والتوزيع، لا شبيه لها إلا في الولايات المتحدة من حيث الحجم. وأقوم بزيارة هذه المكتبات كل يوم، وفي كل يوم تبدو مزدحمة مثل أول السنة الدراسية. وعاماً تلو آخر، تزداد أيضاً مستويات الحرية والتنوع. وقبل أعوام لاحظت مثلاً أن كتاب «الرأسمال» لكارل ماركس، يباع إلى جانب كتب الأدب العربي. وهذا العام أضيفت أعمال الفلاسفة العرب. وما زلت أبحث بدوري عن عمل للفارابي بعدما أمضى كبير الفلاسفة حياته يعمل بستانياً.
نشأ فلاسفة العرب في زمن العرب. لم نتوقف كثيراً عند هوياتهم الجغرافية لأن بلاد العرب كانت بلا حدود. وابن خلدون يوماً في تونس، ويوماً في دمشق، ويوماً في الأندلس. وقد ارتاح أخيراً في المركز الذي يحمل اسمه في القاهرة عند الدكتور سعد الدين إبراهيم. وكم نأسف دائماً أن رجل قامة أكاديمية مثل الدكتور إبراهيم، أهين وسُجن في مصر، خصوصاً أن النظام الذي فعل ذلك كان نظام حسني مبارك، أقل رؤساء مصر قبولاً لثقافة السجن.
صعب سَجن المثقفين، ولا يُنسى في سهولة. ويعود إبراهيم دائماً إلى تلك المحنة التي استمرت 4 سنوات وتدوم جروحها مدى العمر، كما يقول الدكتور مصطفى الفقي، الذي التقى إبراهيم أخيراً.
يتولى كبار مصر تطمين الناس عن أحوال بعضهم البعض. ويتولى الصغار ما يتولونه في كل مكان: الشتم والردح والحسد المقزز. وأحياناً يطمئنوننا أيضاً عن أنفسهم. فكم أقلقنا العالم والأديب الدكتور محمد أبو الغار في تقريره العلمي والأدبي والإنساني عن إصابته بـ«كورونا». وأنا أقرأ أبو الغار عادة بسهولة ومتعة وشراب رمان ملون. وأصر دوماً على قراءة الخاتمة التي نقلها عن سيد درويش «قوم يا مصري، مصر دوماً بتناديك». وكان صعباً عليّ ألمه، لكن بكل كِبَر جعل من المحنة المؤلمة درساً في الطب والعلم. ودائماً درساً في الخلق الرفيع.